في أغسطس/آب الماضي، تعرّض عماد غريس (38 سنة) لحادث انزلاق من ارتفاع لا يقل عن ثلاثة أمتار خلال عمله في ورشة بناء بإحدى ضواحي العاصمة تونس. أصيب بكسور مضاعفة، وخضع لعمليتين جراحيتين في إحدى المستشفيات المتخصصة بتقويم الأعضاء، لكن مسيرة علاجه تحتاج إلى أشهر كي يستكمل جلسات العلاج الطبيعي، ويستعيد القدرة على الحركة والعمل.
يعتقد غريس أنه لن يكون قادراً على العودة إلى ورشة البناء التي عمل فيها لأكثر من 20 سنة، تدرّب خلالها على حماية نفسه من كل المخاطر التي قد تواجهه من دون أن يمنع ذلك تعرضه للحادث. يقول لـ"العربي الجديد": "يتعرّض عمال ورش البناء لمخاطر مهنية كبيرة بسبب نقص وسائل الحماية في أماكن العمل المفتوحة، والأمر مرتبط بواقع أن كلفتها عالية، في حين يعاني سوق العمل بقطاع البناء حالياً من الهشاشة. ويُضاف إلى ذلك نقص الرقابة وثقافة الحماية من المخاطر المهنية عموماً".
ويؤكد أن السقوط من أماكن مرتفعة يشكل الخطر الأول في أماكن العمل المفتوحة وورش البناء رغم إلزامية اتخاذ تدابير الوقاية اللازمة عبر تركيز أعمدة متقاطعة تحمي العمال من السقوط أو زلات القدم، أو حتى التعرض لإغماء فجائي نتيجة الحر خلال فصل الصيف.
وتكشف الإحصاءات الرسمية لحوادث الشغل والأمراض المهنية لعام 2023 ارتفاع الحوادث القاتلة التي صُرّح بها بزيادة نسبتها 17% مقارنة بعام 2022. وحسب إحصاءات الصندوق الوطني للتأمين على المرض، يحتل قطاع البناء والأشغال العامة المركز الأول في عدد حوادث الشغل القاتلة، بما يشكل 25% من إجمالي حوادث الشغل القاتلة التي وقعت في عام 2023.
وتعد حوادث السقوط من الأماكن المرتفعة أو سقوط أشياء صلبة أو التعرض لصعق كهربائي أو الانحشار بين آلات أو الحروق أبرز أسباب الوفاة في أماكن العمل المصرح بها، وتعتبر الشريحة العمرية بين 50 و60 سنة هي الأكثر عرضة لحوادث الشغل في ورش البناء، بنسبة تصل إلى 41% من مجموع الضحايا.
وتقول البيانات الصادرة عن الصندوق الوطني للتأمين على المرض إن 90% من حوادث الشغل نتجت عن تعرّض العمال إلى اضطرابات عضلية أو عظمية، وسجلت هذه النسبة زيادة خلال العام الماضي مقارنة بعام 2022.
ويؤكد مدير الخدمات الوقائية بالحماية المدنية، العميد عادل السليماني، أن القانون التونسي يوجب توفر شروط السلامة عند إسناد تراخيص البناء الخاصة بالمباني المفتوحة للعموم. ويقول لـ"العربي الجديد": "تلزم شروط السلامة المقاول أو من يستغلون ورش البناء بتوفير كل مقومات العمل الآمن، كما يحمّل القانون المسؤولية الجزائية لهذه الأطراف عند وقوع حوادث في أماكن العمل".
ويتحدث السليماني عن "حصول تجاوزات لشروط السلامة في بعض الورش، ما يؤدي إلى حوادث قاتلة نتيجة عدم احترام شروط رخص البناء ونقص وسائل الرقابة. يحمّل القانون المسؤولية الجزائية في حوادث الشغل التي تحصل للمطوّر العقاري، وفق بنود العقد الجزائي الموقع بين الطرفين، لكن كلاهما مسؤول عن تطبيق إجراءات السلامة الواردة في رخصة البناء".
ويوجب القانون التونسي الإبلاغ عن حوادث العمل أياً كانت خطورتها من المتضرر أو بواسطة صاحب العمل أو مأموريه، وذلك في اليوم نفسه لوقوع الحادث، أو خلال 48 ساعة، كما يُلزم القانون صاحب العمل بالمتابعة الإدارية لملف تعويض المتضرر من أجل تجنّب مواجهة تكاليف جبر الأضرار الناجمة عن إهماله.
وبحسب وزارة التجهيز والإسكان فإن قطاع البناء يوفر نحو 450 ألف فرصة عمل، ويشهد نحو 3500 حادث سنوياً، بمعدل عشرة حوادث يومياً، ما يجعله من بين أكثر القطاعات خطورة. ويشكل السقوط من أعلى المباني أكبر نسبة من الحوادث القاتلة في قطاع البناء بنسبة 25%، ثم سقوط أشياء فوق الأشخاص، ثم التعرّض للصعقات الكهربائية.
وتتسبب حوادث العمل في قطاع البناء بنحو 100 ألف يوم عمل مهدر، تشكل نسبة 10% من إجمالي عدد الأيام الضائعة في كل القطاعات المقدرة بنحو مليون يوم عمل مهدر نتيجة عدم اعتماد وسائل الوقاية اللازمة، رغم ما يوفره صندوق التأمين على المرض من تمويل وتشجيع للمؤسسات للحدّ من مخاطر الحوادث.
ويقدم الصندوق قروضاً ميسّرة تصل إلى 300 ألف دينار (نحو 100 ألف دولار)، لتمويل شراء وسائل الوقاية في أماكن العمل، لكن مهندسين متخصصين في الأشغال العامة يعتبرون أن خفض نسب حوادث العمل بورش البناء يتطلب تحسين ظروف العمل في هذه الأماكن، ومراجعة المنظومة التشريعية المتعلقة بحوادث العمل، فضلاً عن تطبيق آليات الردع المتعلقة بعدم احترام شروط السلامة.