استمع إلى الملخص
- الوضع الصحي والنفسي لسكان غزة تأثر بشدة، حيث يعانون من الإحباط واليأس بسبب النقص الحاد في الغذاء والقصف المستمر، والخياطون يضطرون لتضييق الملابس للمتأثرين بفقدان الوزن.
- الأطفال والمراهقون هم الأكثر تأثراً بالوضع الغذائي المتردي، مع تحذيرات من مستقبل صحي مظلم بسبب نقص العناصر الغذائية الكافية والغذاء منخفض القيمة الغذائية المتوفر.
سوء التغذية وقلة إدخال المساعدات إلى قطاع غزة واستمرار العدوان والتهجير من منطقة إلى أخرى أفقدت الغزيين وزناً كثيراً، حتى تحولوا إلى مجرد أشباح على الطرقات.
فقد الغزيون الكثير من أوزانهم في الشهر التاسع توالياً للعدوان الإسرائيلي الذي بدأ في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ولا تتوفر القدرة على تأمين الطعام مع تقليص دخول المساعدات إلى قطاع غزة إلى أكثر من 70% مما كانت عليه الحال قبل السادس من مايو/ أيار الماضي، واحتلال معبر رفح البري وإخراجه عن الخدمة.
إذاً، يشهد الغزيون تقلصاً في أوزانهم إلى النصف أحياناً، وخصوصاً سكان المنطقة الشمالية المحاصرة، التي لا تدخل مساعدات إليها، باستثناء أعداد قليلة جداً، وقد يتناولون وجبة واحدة كل خمسة أيام. يعانون بسبب انعدام الأمن الغذائي وتزايد المجاعة داخل المنطقة. وفي مناطق أخرى، يشغّل العديد من الخياطين الذين يعتمدون على عجلات الدراجات الهوائية ماكيناتهم لتضييق الملابس بسبب نقص أوزان الزبائن.
في المنطقة الشمالية، يصف المواطنون أنفسهم بأشباح تمشي على الأرض. تقلصت أوزان أجسادهم بسبب سوء التغذية، وخصوصاً خلال الشهرين الأخيرين، جراء القصف الشديد على محافظات المنطقة الشمالية كافة، والنزوح الأخير في الشمال ومدينة غزة، بينما لا تزال تتواصل القيود على إدخال الغذاء باستثناء مواد قليلة جداً مثل الدقيق أو عبر طائرات إنزال المساعدات التي يجبر على ملاحقتها الغزيون بشكلٍ مذل.
خسر يوسف رضوان (33 عاماً) 22 كيلوغراماً ونصف كيلوغرام من وزنه، لكن الأطباء يعتقدون أنه أصيب بجرثومة في المعدة وقد حرم من الطعام خمسة أيام، واكتفى بالمشروبات فقط والمياه. وسبب الإصابة هو تناوله أغذية من مصادر غير صحية كما يصف. ويبين أنه في مارس/ آذار الماضي خسر وزناً أكثر من ذلك. لكن في إبريل/ نيسان الماضي، وبعد تخفيف الحصار عن المنطقة الشمالية والسماح بإدخال الطعام، استطاع تناول الطعام قبل أن يشتد الحصار وتُمنَع الأغذية عن المنطقة مجدداً.
رضوان هو أحد الموجودين في منطقة غرب مدينة غزة، ويتنقل ما بين حي الرمال والنصر ومنطقة البحر وصولاً إلى منطقة الشيخ عجلين جنوب غربي مدينة غزة، للبحث عن الطعام يومياً وحتى ملاحقة طائرات المساعدات أو ترقب دخول الشاحنات. وفي بعض الأحيان، لا يستطيع مواصلة السير بسبب حالة الهزال الجسدي.
يقول رضوان لـ "العربي الجديد": "أنا واحد من مجموعة شبان وأصدقاء من حي الشيخ رضوان جميعنا فقدنا أوزاننا. لم يعد البعض مهتماً بمعرفة عدد الكيلوغرامات التي خسرها لأنه يرى نفسه في المرآة. بات وجهي ضعيفاً ويميل إلى الاصفرار. لكن الأصعب من ذلك أننا مجبرون على الحراك لأجل الحصول على الغذاء أو الشراب".
يضيف رضوان: "أخبرني الأطباء في عيادة الشيخ رضوان، التي تفتح جزئياً، أن الأعراض التي أواجهها هي نتيجة جرثومة في المعدة، ومنحوني شراباً يستخدم للأطفال لتطهير المعدة، إذ لا يوجد بديل منه. بدأت أشربه ولا أستريح على الرغم من أنه يفترض أن أستريح في المنزل. كان وزني قبل العدوان 90 كيلوغراماً وكنت أتمتع بصحة جيدة. كنت عداء رياضياً، لكن الآن بت هزيلاً وضعيفاً وجائعاً".
يشير الناس إلى محمد مطر. الجميع يعرف قصته هو الموجود في مخيم جباليا، وقد خسر الكثير من الوزن. قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كان قد وصل وزنه إلى أكثر من 120 كيلوغراماً. أما اليوم، فقد بلغ 63.5 كيلوغراماً.
يشعر مطر بالانزعاج بسبب نظرات الناس إليه. كان يعمل في أحد محال سوق مخيم جباليا الذي دمره الاحتلال أثناء العملية الأخيرة على المخيم. كان يعرف بـ"لسانه حلو"، وكان يملك مهارة الإقناع في البيع مع الزبائن. لكنه الآن تحول في نظر الكثيرين إلى ضحية.
يقول مطر لـ"العربي الجديد" إنه لم يتناول الطعام منذ يومين. ويعمد كثيرون إلى تقسيم الوجبة الواحدة على أيام، فيما أصيب كثيرون بالأمراض، كالنزلة المعوية، وهي أحد الأسباب التي أدت إلى فقدانه الكثير من وزنه، عدا سوء التغذية وفقدان الشهية في بعض الأحيان، هو الذي خسر عشرات الشهداء من عائلته. يضيف لـ"العربي الجديد": "منذ الشهر الثاني من العدوان، بدأنا نعيش نقصاً في الغذاء والمياه في شمال القطاع. نسينا الكثير من الأغذية. لا نذكرها إلا في أحلامنا، على الرغم من أنني كنت أتمتع بصحة جيدة وأتحرك وأضحك وأجادل الناس في البيع وأمازح الأطفال والجميع يعرفني. ولكنني الآن بلا شهية ولا صحة".
ويشدد: "الناس تعتقد أن خسارتي الوزن تجعلني أشعر بخفة الحركة، لكن صحتي قبل كانت أفضل وكنت سريع الحركة، أشعر أنني ثقيل وهزيل من الداخل وبنفسية سيئة، ربما قبل العدوان كنت أتمنى أن أخفف وزني قليلاً، لكن الآن أتمنى لو أعود كالسابق وبصحة نفسية جيدة، بعض الأطعمة والشراب نسيت طعمه مطلقاً، إلى جانب أنني بلا عمل وأعول أسرة كبيرة ولا أملك مالاً".
مطر والكثيرون خسروا ما بين نصف الوزن وربعه، وفي بعض الأحيان، يدخل البعض في تنافس حول خسارتهم وزناً أكثر من الآخرين، ليصبح نوعاً من المزاح والتنافس في ظل الظروف النفسية الصعبة، ولكي يجعلونها حالة فكاهية فيما بينهم، مثل ما يبيّن ياسين أبو الريش (37 عاماً)، الذي خسر 26 كيلوغراماً من وزنه، فكان الأكثر خسارة من بين الموجودين داخل الخيمة المكونة من سبعة أفراد.
يقول أبو الريش لـ"العربي الجديد": "في بعض الأحيان، نواسي أنفسنا. فقدنا وزناً كثيراً وقد قضينا سنوات نتمنى فيها أن نخسر الوزن. للأسف، عندما نشعر أننا كنا مجبرين على ذلك، نعيش إحباطاً. نعزّي أنفسنا في اللعب والكلام حتى ننسى همومنا. الجوع والعطش يضرباننا".
يقول محمد العبيد، الذي يعمل على ماكينة خياطة، كانت تعمل عليها زوجته في منطقة المخيم الجديد في مخيم النصيرات: "يومياً، أضيّق الكثير من الملابس لرجال ونساء، وحتى أطفال منهم دون 14 عاماً، بسبب نقص الوزن، وبعض الثياب التي يقصّرونها نتيجة اهتراء أطرافها السفلية لدى المشي". يضيف العبيد لـ"العربي الجديد": "الكثير من الأقمشة مهترئة. أقوم بعمليات إصلاح معقدة جداً، كما يساعدني ابني الأكبر في تحريك عجلات الدراجة الهوائية للعمل. أسمع الكثير من الحكايات من الناس الذين فقدوا أوزانهم، بعضهم فقدَ ما لا يقل عن 30 كيلوغراماً، وآخرون خسروها نتيجة حرمان أنفسهم من الأكل وتوفيره لأطفالهم. أسمع القصص وفي الوقت نفسه لا أستطيع قبول العمل مجاناً لأنني أواجه سوء التغذية أيضاً".
يلفت طبيب الصحة والتغذية العامة عبد الله مهنا إلى أنه يعمل في مجالات عدة نتيجة حالة الطوارئ التي تشمل جميع الطواقم الطبية في قطاع غزة، إذ يعمل في مجال التغذية والصحة العامة مع منظمة دولية، لافتاً إلى أن مشاكل التغذية والأمراض تأخذ حيزاً كبيراً من عمله اليومي، إلى جانب التطوع في عيادات حكومية. كما يعمل طبيب طوارئ في ساعات معينة في اليوم الواحد.
ويبين مهنا أن الغزيين لا يحصلون على العناصر الغذائية الكافية لأجسامهم، وتعتبر نسبة السعرات الحرارية التي يتلقونها يومياً أقل بكثير من النصف، أو مما هم بحاجة إليه. الأطفال على سبيل المثال بحاجة إلى ألف سعرة حرارية يومياً بالحد الأدنى، والمراهقون إلى قرابة 1500 سعرة حرارية. أما الإنسان البالغ فيحتاج إلى ما لا يقل عن 1800 سعرة حرارية، بينما لا توفر طبيعة الأطعمة، التي هي معلبات ودقيق وحلاوة، قيمة غذائية.
ويقول مهنا لـ"العربي الجديد" إن "نقص الوزن يأتي إما بسبب فقدان الشهية أو اتباع نظام غذائي شديد أو الخوف أو الإرهاق النفسي. يعاني الغزيون الخوف والإرهاق النفسي والجهد البدني اليومي، وهو ما يؤدي إلى نقصان الوزن وغير ذلك. ولا يمكن تصنيف الطعام الحالي الذي يأتي في إطار المساعدات أنه غذاء مناسب أو يمدهم بالعناصر الغذائية اللازمة، لأن تناوله والاعتماد عليه سيؤديان إلى أمراض معدية مستقبلية ويؤثران على نمو وصحة الأطفال".