يعتمد الفلسطيني، مراد البحري، على حسابه في "دفتر الدين" الموجود لدى أحد محالّ البقالة في منطقة سكنه، شمالي قطاع غزة، لتوفير احتياجات أسرته ومستلزماتها الأساسية من مواد غذائية شهرياً، لعدم قدرته على الدفع النقدي.
و"دفتر الدين" ظاهرة قديمة، إلّا أنها نمت خلال العقدين الأخيرين في قطاع غزة المحاصر إسرائيلياً للعام الرابع عشر على التوالي، نظراً لتردّي أوضاع السكّان الاجتماعية والمعيشية، إذ بات هذا النوع من التعامل ركناً أساسياً في عمليات البيع والشراء.
وفي السابق، كان يقتصر "دفتر الدين" على الأسر الفقيرة أو التي تتلقى مساعدات وإعانات مالية من وزارة التنمية الاجتماعية، إلّا أنّ تفاقم أوضاع الموظفين، سواء المحسوبون على السلطة أو حكومة حماس في القطاع، جعلهم يلجأون إلى هذا النوع من التعامل التجاري.
ولا يرفض التجّار أو أصحاب المحالّ التجارية، وخصوصاً أصحاب البقالات الصغيرة أو بعض محالّ بيع الملابس، هذه الطريقة في الدفع، مع مراعاة عدم البيع بسقف مالي مرتفع والتزام المتعامل السداد الشهري لما هو مستحق عليه.
ويقول البحري لـ "العربي الجديد" إنّ صعوبة الوضع الاقتصادي تجعله يميل إلى نظام الاستدانة من خلال مبدأ "الدفتر"، كغيره من سكّان القطاع، في ظلّ شحّ السيولة النقدية المتوافرة، وعدم مواءمة الرواتب لحجم المتطلبات العائلية.
والبحري عامل في أحد المصانع في قطاع غزة، بنظام المياومة، وهو يعيل أسرته المكوّنة من 4 أشخاص، عبر توفير الاحتياجات الأساسية لهم بنظام الاستدانة المعروف لدى أهل غزة بـ"دفتر الدين".
ويراوح معدّل شراء المواطن البحري شهرياً من البقالة التي يتعامل معها، ما بين 250 إلى 300 شيكل (بين 74 و88 دولاراً)، ويسدّد المبلغ المتراكم عليه كاملاً، في بعض الأحيان، أو يرحِّل جزءاً بسيطاً منه إلى الشهر الذي يليه.
ورغم سماح التجّار والمحالّ للكثير من أهالي القطاع بالاستدانة عبر نظام "الدفتر"، إلّا أنّ شريحة كبيرة تتعثّر في سداد المبلغ المالي بشكلٍ كامل، ما يضطرها إلى تأجيل دفع الحساب المتراكم منذ شهور، من شهر إلى آخر، نظراً لعدم قدرتها على السداد.
ويرضى التجّار مرغمين، بهذا النوع من التعامل، نظراً لصعوبة الأوضاع الاقتصادية واعتماد أكثر من 80% من السكّان على المساعدات الإغاثية، وعدم زيادة متوسط دخل الفرد اليومي على دولار أميركي واحد، إلى جانب عدم انتظام رواتب الموظّفين ونسب الصرف الخاصة بهم.
أما رشاد المدهون، صاحب أحد المحالّ التجارية، فيقول إنّ "دفتر الدين" محرّك أساسي للحركة التجارية، خصوصاً للمحالّ التي تعمل في مجال بيع المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، خصوصاً في ظلّ الواقع المعيشي المتدهور في السنوات الأخيرة.
ويوضح المدهون لـ"العربي الجديد" أنّ حجم الإقبال على الشراء بالدين هو الأكبر من قبل المواطنين، في ظلّ الظروف الصعبة التي يعيشونها. ويوضح أنّ التوقف عن البيع بنظام الدَّين أو ما يعرف بـ "الدفتر"، يلحق ضرراً بأيّ منشأة تجارية في ظلّ الواقع الراهن في القطاع، مع الأخذ بالاعتبار عدم التزام الكثيرين سداد ما عليهم من ديون شهرياً وطلب ترحيلها.
ووفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإنّ 58 في المائة من الأسر الفلسطينية عادة ما تقترض المال، أو تشتري بالدَّين لتغطية نفقات الأسرة المعيشية، بما في ذلك الطعام، وارتفعت هذه النسبة خلال فترة الإغلاق إلى 63 في المائة، وكانت أعلى في قطاع غزة مقارنة بالضفة الغربية بنسبة 79 في المائة إلى 52 في المائة.
في موازاة ذلك، يقول المختصّ في الشأن الاقتصادي، محمد أبو جياب، إنّ "دفتر الدَّين" أصبح مركزية العمل بالنسبة إلى المواطن والبائع على حد سواء في القطاع، وبدون هذا النوع من التعامل لن يبيع التاجر ولن يشتري المواطن.
ويضيف أبو جياب لـ"العربي الجديد" أنّ عدم قدرة المواطن على الشراء نقداً يجعله يبحث عن هذا النوع من المعاملات، في ظلّ عدم انتظام الرواتب والخصومات التي يتعرّض لها موظّفو السلطة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتأخّر صرف شيكات التنمية الاجتماعية.
ويعتقد المختصّ في الشأن الاقتصادي أنّ 80 في المائة من الأسر الفلسطينية في غزة تعتمد على التعامل بنظام الدَّين لتوفير احتياجاتها من مأكل ومشرب وملبس، في ضوء انعدام الأمن الغذائي وارتفاعه إلى مستويات غير مسبوقة.
وتشير التقديرات إلى أنّ نسبة البطالة ارتفعت خلال جائحة كورونا إلى 60 في المائة، فيما دخل 100 ألف عامل ضمن إطار العاطلين من العمل، جميعهم كانوا يعملون بنظام اليومية، وهو ما انعكس سلباً عليهم وعلى عوائلهم.
وخلال جائحة كورونا، ارتفعت معدلات انعدام الأمن الغذائي بين سكّان القطاع إلى أكثر من 80 في المائة، فيما وصل مؤشّر النشاط الاقتصادي المتعلّق بعمليات البيع والشراء إلى مرحلة من الانهيار غير المسبوق، إذ بلغ "68" نقطة بالسالب.