في العادة تتفتح زهور اللوز وتخضرّ الحقول والبساتين مع اقتراب الربيع في مدينة سلقين ومحيطها شمال غربي إدلب، لكن الزهور ستتفتح هذه المرة فوق قبور عشرات من سكانها الذي قضوا في الزلزال.
كان سكان مدينة سلقين ومحيطها شمال غربي إدلب ينتظرون بداية فصل الربيع للتمتع بالمشاهد الخلابة للطبيعة، لكنهم فجعوا بكارثة الزلزال. خسرت مدينة الأدراج القديمة والمواقع الأثرية الكثير من أبنائها والنازحين إليها في الزلزال، وباتت بين أكثر المدن تضرراً إلى جانب جارتها حارم في ريف إدلب، وجنديرس في ريف حلب الشمالي.
بعد توقف عمليات البحث والإنقاذ، أدرج الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) سلقين باعتبارها ثالث مدينة منكوبة بالزلزال في سورية، وسجلت فيها أكثر من 200 وفاة، في مقابل إنقاذ فرق الدفاع المدني 258 شخصاً، أما عدد المباني المدمرة بالكامل في المدينة فبلغ 55 مبنى، فضلاً عن نحو 300 مبنى دُمرت بشكل جزئي.
"سلقين كانت جنة"، هكذا يصف أحمد العلي مدينته التي أصبح عدد كبير من أحيائها ركاماً، ويقول لـ "العربي الجديد": "رغم كل ما عانيناه من قصف ودمار خلال الحرب، تعايشنا مع الأوضاع، واحتفظت المدينة بميزاتها، سواء بالنسبة إلى السكان أو السياح والمصطافين الذين يقصدونها، أما اليوم فتظهر مشاهد الدمار انقلاب الأوضاع رأساً على عقب".
يتابع: "يمكن تعويض الدمار، لكن الموت الذي يسكن المدينة اليوم يجعلها كئيبة، وقد حصد عائلات بكاملها تحت أنقاض المنازل، وبعضهم لم تستخرج جثثهم حتى اليوم. الوضع حزين في سلقين التي تبكي أهلها وضيوفها".
والكثير من الوفيات والإصابات في سلقين كانت لنازحين وجدوا ملاذاً لهم في المدينة في ظل الحرب وعمليات التهجير التي أجبرهم عليها النظام والقوات الروسية والمليشيات الإيرانية، سواء في إدلب ومحيطها أو بقية المحافظات السورية.
قبل ثلاث سنوات نزح مصعب يوسف من مدينة معرة النعمان جنوبي إدلب، والتي باتت تحت سيطرة قوات النظام، إلى مدينة سلقين، فأحب العيش فيها، واشترى منزلاً، لكن الزلزال لم يبقه في المدينة إلا خمس ساعات كان فيها في الشارع على غرار غالبية السكان، ثم اضطر للنزوح إلى مدينة بنش شرقي إدلب، وهي أقل تضرراً.
يقول لـ "العربي الجديد": "انهارت غرفتان من المنزل، وتصدّع الباقي. خرجنا من دون أن ندرك ما حدث، والأهم أنه لم تلحق بنا أضرار جسدية، لكن الصدمة ما زالت في مخيلتنا. أهل سلقين باتوا أهلنا حقاً ومصابهم مصابنا، ولم يستثنَ أحد من الكارثة في سلقين، سواء من أهل المدينة أو النازحين. تضرر الجميع، والموت في كل مكان". لم يشأ مصعب مغادرة المدينة رغم كل ما حل بها لكن وضع زوجته المريضة بالسكري وطفله الذي يعاني كذلك من مشاكل صحية دفعه إلى الخروج بعد حالة الرعب الذي أثّرت على صحتهما.
ويقول المتطوع في الدفاع المدني السوري، نديم ديبو، لـ"العربي الجديد": "مدينة سلقين الحدودية مع تركيا تتمتع بطبيعة هادئة، وكانت بعيدة عن الاشتباكات، وتتميّز بطابع عمراني جميل وازدهار تجاري؟، واكتظت بالسكان والمهجرين من كافة مناطق سورية".
ويصف ديبو سكان سلقين بأنهم "طيبون ويمكن التعايش معهم بسهولة. سارت الحياة بشكل طبيعي حتى حصول هذه الكارثة. أفاقت المدينة على خراب، وتهدم عدد كبير من المباني، وكان عدد الوفيات والإصابات مرتفعاً، واستجابت فرق الدفاع المدني للكارثة بسرعة، وعملت منذ الدقائق الأولى على إنقاذ وإسعاف الجرحى، وانتشال جثث الضحايا". ويشير إلى "تدمير 55 بناء بشكل كامل، ووجود مئات من الأبنية المتصدعة، ما حوّل المدينة من شعلة حياة إلى مدينة منكوبة".
ويختلف المؤرخون في أصل اسم مدينة سلقين، لكن يرجح أنه منسوب إلى باني المدينة الملك الروماني سلوقس الأول الذي بناها كمحطة اصطياف له بسبب موقعها وجمال طبيعتها، علماً أن سلوقس الأول بنى أيضاً العديد من المدن، مثل اللاذقية وأنطاكية. وتزعم رواية أخرى أن الاسم يرتبط بالطبيعة الجبلية لسلقين وموقعها الجغرافي، إذ توجد المدينة بين جبلين، ويمكن ملاحظة تشييد بيوتها صعوداً إلى قمة الجبلين، من هنا معنى اسمها "الصاعدون" باللغة السريانية.
تتبع سلقين منطقة حارم في محافظة إدلب، وتبعد 46 كيلومتراً عن مركز المحافظة، و80 كيلومتراً عن مدينة حلب، وتقع ضمن منطقة تملك إطلالة رائعة وخلابة على سهول الإسكندرون ونهر العاصي.
ويبلغ عدد سكان سلقين نحو 70 ألفاً ويتجاوز 125 ألفاً مع سكان ريفها، وتعتبر مركزاً تجارياً وصناعياً رئيسياً لكافة القرى المحيطة بها. وتعرف المدينة تقدماً عمرانياً كبيراً، لكن كارثة الزلزال، وقبلها سنوات الحرب التي شهدتها المدينة، تطلّبت إطلاق نهضة عمرانية وتأسيس بنية جديدة لإعادة بعث الحياة فيها ونفض غبار أنقاض منازلها وحاراتها المدمرة.