يرى كثيرون أنّ عودة السجال حول حظر حجاب المرأة التركية ليس إلّا شأناً سياسياً، إذ يسبق طرحه الانتخابات التي ستجرى في يونيو/حزيران المقبل، بينما اختصرت الطالبة التركية ساريّ جيتين كايا قضية الحجاب في بلادها بالقول إنها "حريّة شخصية. لماذا يحولونها إلى قضية خلافية؟".
ما قالته الطالبة في ثانوية بورصة أناضولو بمنطقة زيتين بورنو في إسطنبول، جاء على خلفية تسابق الأحزاب التركية على إثارة القضية كورقة سياسية واجتماعية قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي تشهدها تركيا في منتصف العام المقبل.
تضيف جيتين كايا لـ"العربي الجديد": "أنا لا أضع غطاء رأس رغم أن أمي محجبة، ولم ألق معارضة أو إلزاماً من أسرتي، رغم أنني درست المرحلة المتوسطة بمدارس إمام خطيب الأقرب للمدارس الدينية. لا أضع الحجاب لكني لا أوافق على القوانين التي تحظر الحجاب في الدوائر الحكومية أو المدارس والجامعات. الإلزام مصادرة للحرية مثل المنع. الحجاب تحوّل إلى زيّ أكثر منه التزاما دينيا، وفي تركيا نرى سيدات يضعن الحجاب بينما ملابسهن قصيرة، أو سراويلهن ضيقة".
ولقضية حجاب المرأة تاريخ طويل من السجال في تركيا، وبدأت عقب تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك، وقوانين "العلمانية" التي تمنع الزي الديني مازالت قائمة، وقرار حظر التزام الطالبات الجامعيات بالحجاب استمر حتى عام 2010، وحظر وضع غطاء الرأس في المؤسسات الحكومية لم يرفع إلا في عام 2013، وفي المدارس المتوسطة ظل سارياً حتى عام 2014، وكسر الحظر خلال 2016 في قطاعي الجيش والشرطة "شريطة ألا يغطي الوجه، وأن يكون من نفس لون البزة العسكرية".
كشف زعيم حزب الشعب الجمهوري "العلماني المعارض"، كمال كليتشدار أوغلو، عن عزمه تقديم مشروع قانون إلى البرلمان من "أجل ضمان حق الحجاب للنساء، وحمايته قانوناً"، وقدم اعتذاراً عما وصفها بـ"أخطاء الماضي".
وأثارت تلك الخطوة حفيظة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي دعا إلى إدراج الحجاب كحق في دستور البلاد بدلاً من الاكتفاء باقتراح إصدار قانون يضمن عدم المساس بحرية الحجاب، مذكراً بأنّ "حكومات حزب العدالة والتنمية أزالت حظر الحجاب الذي وصل إلى مستوى الظلم"، وأن "مشروع حزب الشعب بعيد كلّ البعد عن حلّ المشكلة بالطريقة المرغوبة".
وقال الرئيس التركي، خلال خطاب في ولاية ملاطيا: "إن لم يتمكن البرلمان من تمرير تعديل دستوري يشمل القانون المتعلق بالحجاب، فلنذهب إلى استفتاء شعبي لتمريره. إنها أول مرة أتحدث عن هذا الأمر. إن لم يمر المشروع بالبرلمان، فلنذهب إلى الشعب ليقول كلمته حول التعديلات الدستورية المقترحة".
يرى المحلل التركي إسلام أوزجان، القريب من حزب الشعب المعارض، أن قضية إعادة طرح الحجاب "سياسية أكثر منها اجتماعية، أو حقوقا شخصية، والحقيقة أنه لا توجد مشكلة تعاني منها المحجبات، سواء في الجامعات أو أماكن العمل، لكن مخاوف المعارضة من استخدام حزب العدالة والتنمية لهذه الورقة دفعها، عبر رئيس حزب الشعب، إلى طلب حلّ هذه الجدلية عبر القانون". ويضيف أوزجان لـ"العربي الجديد": "من غير المناسب أن ينص الدستور التركي على مسألة الحجاب، فالدستور يضمن الحريات بشكل عام، وغير مستبعد أن يتفاعل الموضوع، ونصل إلى استفتاء شعبي، لأن أصوات المحافظين هي مسعى الجميع قبيل الانتخابات".
في المقابل، تقول الأستاذة في جامعة محمد الفاتح بإسطنبول، عائشة نور، وهي عضو بحزب العدالة والتنمية الحاكم، إنه "لا مشكلة حالياً تهدد المحجبات، لكن من يضمن عدم وجود مشكلة إن وصل حزب الشعب إلى السلطة؟ ألم يسبق لهذا الحزب أن حظر الحجاب في الجامعات والمدارس وحتى مراكز العمل؟ الشعب لا يأمن من قرارات وقوانين تطاول الحريات الشخصية إن وصلت المعارضة إلى السلطة، لذا الضامن هو أن تدرج تلك الحقوق في الدستور".
تضيف الأكاديمية التركية لـ"العربي الجديد": "مسعى حزب الشعب أن يروج قبل الانتخابات أنه يضمن الحرية الشخصية ليضمن الأصوات، ولكننا لا نستبعد لإقرار الشذوذ وحظر الحجاب إن فازت المعارضة بالانتخابات العام المقبل، وبالتالي تكبيل حريات الشعب التركي ذي الغالبية المسلمة. حزب العدالة والتنمية يحكم منذ عشرين عاماً، لكنه لم يقيّد أي حرية شخصية، أو يسيء لأي معتقد ديني، في حين أن مبادئ حزب الشعب الجمهوري تعتبر الحجاب تخلفاً، أو عقبة أمام علمنة الدولة". تختم عائشة نور أنّ "الدستور أعلى درجة من القانون، والحظر السابق لم يكن نابعاً من الدستور، بل من قانون، لذا لماذا ترفض المعارضة حلّ القضية من جذورها حتى لا يعود المساس بالحرية الشخصية مع تغير الحكومات؟".
ويرى المحلل التركي هشام جوناي، المقرب من المعارضة اليسارية، أنّ إعادة طرح ملف الحجاب وراءه خشية من قيام الحزب الحاكم بتخويف الناخبين من إصدار قرارات منع الحجاب مجدداً لو فازت المعارضة، الأمر الذي دفع رئيس حزب الشعب إلى سحب أي ذريعة يمكن أن يستخدمها الرئيس أردوغان، ويعلن نيته تقديم مشروع قانون للبرلمان لحماية حق الحجاب. يضيف جوناي لـ"العربي الجديد" أنّ "الرئيس أردوغان التقط القضية، وسمعناه، مساء السبت، يلوح بالذهاب إلى استفتاء شعبي لتضمين الحجاب في الدستور إن لم يتمكن البرلمان من تمرير التعديل الدستوري" معتبراً أنّ قضية الحجاب "كانت من أسباب وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، وإعادتها مجرد تسخين للموضوع، رغم أن هموم الأتراك اليوم اقتصادية، ولا مشكلة لدى الأسر والمجتمع في الحجاب. ووفق الاستطلاعات، فإن الميل إلى عدم الانشغال بالأديان يفوق ما كان عليه في السابق".
ويقول مدير مركز الدراسات الاستراتيجية بإسطنبول، محمد كامل ديميريل، إن "تصميم الحزب الحاكم على البتّ نهائياً بالحقوق الشخصية، ومنها قضية الحجاب، سببه أنّ المعارضة لن تتوانى إن سمحت لها الظروف عن تقييد الحقوق، ومنع الحجاب، بل والمتاجرة بالحريات، وبحقوق المثليين". يضيف ديميريل لـ"العربي الجديد" أن "خطاب أردوغان كان واضحاً، إذ قال إن البعض يطالب بحقوق المثليين، لكنّ العائلة التركية الأصيلة والقوية لا يمكن أن يكون فيها مثليون، ووراء ذلك أحزاب المعارضة التي لديها أجندات خارجية، وتمنى على أطياف المعارضة أن يكون بينها توافق على درء المحاولات التي تريد إفساد المجتمع عبر قيم غريبة، ومن يعرف الرئيس أردوغان، يعرف أنه لا يتساهل في حقوق وحريات الأتراك، ولن يسمح للمعارضة بالمتاجرة بتلك الموضوعات الحساسة كدعاية انتخابية".
قضية حظر الحجاب في تركيا مرت بمراحل مختلفة
ظهرت قضية الحجاب في تركيا لأول مرة في عهد مصطفى كمال أتاتورك، حين أدرج الحجاب ضمن سلسلة من المحظورات، لكنّ الحظر لم يصبح قانوناً سارياً إلّا بعد انقلاب الجنرال كنان أفرين في ثمانينيات القرن الماضي، والذي قرر منع المحجبات من العمل في مؤسسات الدولة، أو دخولهن إلى الجامعات والمؤسسات التعليمية.
وتذكر المراجع التركية أنه في أيام حكم إحسان صبري تشالا يانغيل، خشي كثيرون من تحالف بولنت أجاويد ونجم الدين أربكان، خصوصاً بعد قيادة أربكان، رئيس حزب الرفاه، لمسيرة قونية في 1980، والتي رفعت شعارات تأسيس دولة إسلامية، وإقرار الشريعة الاسلامية، وتحرير القدس. وقتذاك عاد طرح قضية الحجاب، قبل أن يقود رئيس أركان الجيش الجنرال كنعان أفرين، ومعاونه الجنرال حيدر سالتيك، انقلاباً حظر الأحزاب، وقرر محاكمة أربكان وزملائه بتهمة العمل على استبدال الحكم العلماني بحكم إسلامي، لتصدر الحكومة التركية في عام 1984، قراراً يمنع الحجاب في الجامعات والمؤسسات الحكومية وبعض المؤسسات الخاصة.
وحسب مصادر تركية، حاولت حكومة تورغوت أوزال توسيع دائرة الحريات في البلاد خلال عامي 1989 و1990، بما في ذلك حرية الحجاب في الدوائر الحكومية والجامعات، لكن المحكمة الدستورية ألغت هذه التعديلات بناءً على طلب أحزاب المعارضة اليسارية.
وبعد أحداث 28 فبراير/شباط 1997، والتي أجبرت رئيس الوزراء آنذاك، نجم الدين أربكان، على الاستقالة، شُدّد حظر الحجاب، وكذا القيود على طلاب الجامعات، وزاد التشدد إزاء المحجبات، حتى وصل الأمر إلى طرد النائبة مروة قاوقجي من مجلس النواب في عام 1999، بسبب إصرارها على الحجاب.
مع وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى السلطة في عام 2002، عاد سجال الحجاب إلى المشهد، خصوصاً أنّ المشكلة كانت على قائمة الوعود الانتخابية للحزب، لكنّه لم يتمكن من اتخاذ أي خطوة في البداية، ومُنعت أمينة أردوغان، زوجة زعيم الحزب رجب طيب أردوغان، من دخول المستشفى العسكري بسبب حجابها.
لكن في عام 2008، بدأ حزب "العدالة والتنمية" محاولاته الأولى، بالاتفاق مع حزب الحركة القومية، لتمرير تعديلين على قانون الخدمة المدنية المنظم لعمل الموظفين، يضمن حرية الحجاب في الدوائر الحكومية، لكنّ المحكمة الدستورية ألغت التعديلات مرة أخرى بناء على طلب المعارضة.
وكان 2010 هو عام التحول، إذ أصدر رئيس مجلس التعليم العالي، يوسف ضياء أوزجان، تعميماً يمنع أساتذة الجامعات من طرد المحجبات من قاعات الجامعة، ليكون 2013 هو عام الحسم، إذ وافق حزب "العدالة والتنمية" الحاكم على مجموعة من التعديلات والقوانين التي تهدف إلى توسيع الديمقراطية، بما في ذلك حرية الحجاب، وحقوق الأقليات، وتعديل القوانين الانتخابية والجنائية، ليُرفع في العام نفسه، حظر الحجاب في المؤسسات الحكومية، وفي عام 2014، ألغي الحظر بالمدارس المتوسطة، ولاحقاً في الجيش والشرطة.