استمع إلى الملخص
- شهد السجن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، حيث تعرض المعتقلون لتعذيب وحشي وإعدامات جماعية، مما أثر على صحتهم النفسية والجسدية.
- تقرير "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" أكد عمليات تعذيب وقتل ممنهجة، ورغم الإفراج عن المعتقلين، يستمر البحث عن المفقودين وسط تحذيرات من الألغام.
محرّر: مساجين فقدوا عقولهم في زنازين مكتظة حيث ينام بعضنا فوق بعض
كانت الفرحة مختلطة بالصدمة على وجوه غالبية المعتقلين المحررين
أودع معظم المعتقلين في سجن صيدنايا من دون محاكمة
تمكنت فصائل المعارضة السورية بعد ساعات قليلة من إسقاط النظام وإعلان هروب بشار الأسد، من فتح أبواب كثير من زنازين سجن صيدنايا، وإخراج مئات المعتقلين، لكن معظمهم لم يصدق سقوط خبر النظام.
في أحد مقاطع الفيديو المنتشرة للمعتقلين السوريين الذين أفرج عنهم من سجن صيدنايا الرهيب عقب سقوط النظام، يظهر شاب في العقد الثالث من العمر، نحيلاً مذهولاً، لا يستطيع الإجابة عن الأسئلة الخاصة باسمه أو مدينته أو قريته. ليعلق أحد السوريين: "نجا بجسده، وفقد عقله".
كانت الفرحة مختلطة بالصدمة على وجوه غالبية المعتقلين المحررين، لكنهم سرعان ما انطلقوا إلى خارج أسوار السجن، لتغص بهم شوارع مدينة صيدنايا، والتي غصت بالكثير من ذوي المعتقلين على أمل العثور على أبنائهم بين المحررين.
توجه السوري ليث دغيم من إدلب إلى صيدنايا، عله يجد والده المعتقل منذ عام 2012 بين المحررين من السجن، بحث كثيراً في وجوه الخارجين من دون نتيجة، ثم بات ليلته قرب السجن مع انتشار أخبار حول وجود زنازين سرية تحت الأرض، لا يعرف مداخلها سوى السجانين، وبدأت أعمال الحفر في السجن من قبل الأهالي ومقاتلي المعارضة، قبل أن يرسل الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء" فرقاً مختصة لإجراء عمليات الحفر والبحث، تضم فريقاً لفتح الأبواب الحديدية، وفريق كلاب مدربة، وفريق إسعاف.
وقال الدفاع المدني السوري في بيان، ظهر الاثنين، إن فرقه الخمسة التي وصلت إلى سجن صيدنايا لم تعثر بعد على أي أبواب سرية، مضيفاً: "الفرق تعمل بأدوات الخرق والبحث والمجسات الصوتية، وتضم كلاباً مدربة، ويرافقنا في البحث أشخاص يعرفون تفاصيل السجن، إضافة إلى اعتمادنا على إرشادات من أناس تم التواصل معهم من قبل الأهالي، يعرفون مداخل السجن والأقبية السرية. نعمل بكل طاقاتنا، لكن لا دلائل تؤكد وجود معتقلين ضمن أقبية أو سراديب السجن، وسنستمر في البحث حتى التأكد من جميع أقسامه".
بعد 24 ساعة قضاها في المكان، قرر ليث الدغيم العودة إلى إدلب، وبدأ يفقد الأمل بالعثور على والده، ويقول لـ"العربي الجديد": "جئت إلى صيدنايا بأمل ضعيف، فالمعلومات عن وجود والده في السجن كانت غير مؤكدة. منذ عام 2016، انقطعت أخبار والدي، والذي كان في سجن المخابرات الجوية بالمزة (غرب دمشق)، وجاءتنا معلومات بأنه تم نقله في عام 2018 إلى سجن صيدنايا، لكن لم نتأكد من المعلومة".
وأودع معظم المعتقلين في سجن صيدنايا من دون محاكمة، وبعضهم جنائيون، وكان العثور عليهم بمثابة ولادة جديدة، وعودة من موت محقق.
خرج محمود الفايز من السجن الرهيب الذي أمضى فيه نحو 4 سنوات منذ اعتقاله أثناء عودته من لبنان على إحدى حواجز النظام في دمشق، ويصف سجن صيدنايا بأنه "مسلخ بشري" بكل ما تعنيه الكلمة، وتحدث عن تعرضه لتعذيب وحشي يومي. يقول: "كانوا يضربوننا بالسياط والأسلاك الكهربائية على الظهر والرأس حتى نفقد الوعي، ثم يقومون بصب الماء البارد علينا ليواصلوا التعذيب. كنت أسمع صراخ الآخرين في غرف التعذيب المجاورة، وكنا نجبر على مشاهدة زملائنا وهم يُؤخذون إلى تنفيذ حكم الإعدام. كانت هناك إعدامات يومية، ينادون باسم سجناء محددين ليخرجوا، ثم لا يعودون أبداً،".
يضيف الفايز، الذي ينحدر من جبل الزاوية بريف إدلب، في شهادته لـ"العربي الجديد": "رأيت أطفالاً في الزنازين لا تتجاوز أعمارهم 10 أو 12 سنة، وكانوا يُضربون بقسوة مثل البالغين، ويعاملون بوحشية لا تُصدق، وأصوات بكائهم تدمي القلوب، لكن لم نكن نستطيع أن نحرك ساكناً، وكنا نأكل قطعة صغيرة من الخبز مع الماء، وتنتشر الأمراض بيننا من دون أي علاج، وكنت أرى زملائي يموتون بسبب التعذيب أو المرض في الزنازين المليئة بالقذارة".
ارتكب النظام جرائم تعذيب وقتل ممنهجة في سجن صيدنايا
يقول المعتقل المحرر معن الصيادي لـ"العربي الجديد": "كانت الزنازين مكتظة، وينام بعضنا فوق بعض، ولم يكن هناك أي تهوية، ورائحة العفن والعرق والدماء تخنق الأنفاس، وبعض المساجين فقدوا عقولهم، وآخرين ماتوا نتيجة التعذيب". يتابع الصيادي، وهو من مدينة معرة النعمان بريف إدلب: "في أحد الأيام، أخذوا أكثر من 50 شخصاً من زنزانتنا، ولم يعودوا، ولاحقاً عرفنا أنهم أعدموا. كان الموت يلاحقنا ليلاً ونهاراً، والمحظوظ هو من يمر عليه يوم بلا تعذيب نفسي أو جسدي. لم نكن نتخيل أن ينتهي هذا الكابوس، أو أننا سنخرج أحياء".
يضيف: "كنت أبكي في الزنزانة لساعات، وأصعب ما مررت به لم يكن التعذيب أو الجوع، بل رؤية زملائي يستسلمون للموت. بعض السجناء كانوا يرفضون الطعام لأنهم ببساطة اختاروا الموت. هذا السجن لا يقتل الجسد فقط، بل الروح أيضاً. لم نكن نشعر أننا بشر، وكانوا ينادوننا بالأرقام من دون أسماء، فكل شيء في السجن يهدف إلى سلب إنسانيتنا. كان السجانون يتعاملون معنا بوحشية، وأكثر ما كان يوجع القلب هو رؤية أطفال معتقلين بينما لا يدركون حقيقة ما يحدث، ويسألون لماذا نحن هنا؟ لماذا يعاملوننا هكذا؟ رأيت طفلاً يطلب من السجان كوب ماء، فضربه السجان بعنف حتى أغمي عليه. الوقت في صيدنايا لم يكن يمر، وكانت الدقائق تبدو كساعات، والأيام كأعوام. كنا نعيش في ظلام دامس، وكأننا دفنا أحياء، وكان كل همنا أن نحافظ على عقولنا".
من جانبه، يؤكد الطبيب النفسي عمار بيطار، أن قابلية الإصابة بالمرض النفسي تتوفر عند كل الناس، لكنها تتضاعف داخل المعتقلات نظراً إلى الظروف التي يعيشها المعتقلون، وأن الاعتقال والتعذيب يمثلان أحد أكثر التجارب قسوة على الإنسان، ويتركان ندوباً نفسية عميقة قد تستمر طويلاً بعد الإفراج عن المعتقل. ويوضح لـ"العربي الجديد": "كثير من الأشخاص لديهم استعداد وراثي للإصابة بأمراض مثل الفصام أو الاكتئاب، وفي السجون يعيش الشخص في أوضاع صعبة يمكنها أن تفاقم الأعراض النفسية، وكل هذا تفسره بعض تصرفات المعتقلين الذين يخرجون وعلى وجوههم حالات من الذهول والصدمة، وعدم القدرة على الكلام، أو يبدون تصرفات غير مبررة، وهناك من يدخل في حالة الصمت الاختياري، والتي يجدها وسيلة دفاع عن النفس".
يضيف بيطار:"الكثير من المعتقلين المفرج عنهم يظهر عليهم أعراض ما يسمى (الكرب الحاد)، وهؤلاء ليس لديهم مرونة نفسية، ويمكن أن يتطور لديهم الأمر خلال فترة قصيرة إلى (كرب ما بعد الصدمة)، وهو مرض له أعراض منها اجترار الذاكرة، وهذا العرض يمكن أن يتعرض له لمريض بينما هو مستيقظ، لا سيما عندما يكون بمفرده، أو على شكل كوابيس خلال النوم".
ويشدد على أن "التأثير النفسي للتعذيب يتطلب استجابة شاملة تتعدى العلاجات النفسية التقليدية. الناجون الذين يعانون من اضطرابات كرب ما بعد الصدمة يحتاجون إلى مراكز متخصصة تقدم العلاج النفسي والاجتماعي، إضافة إلى برامج إعادة التأهيل الجسدي. لا يكمن التحدي في إخراج المعتقلين من أقبية السجون، بل يمتد إلى إنقاذهم من الآثار النفسية المدمرة التي تتركها تلك التجربة، والمجتمعات تتحمل مسؤولية توفير بيئة داعمة تُساعد الناجين على إعادة بناء حياتهم، واستعادة الشعور بالأمان والكرامة".
وكان "سجن صيدنايا" محط انتقادات حقوقية على امتداد سنوات الثورة السورية، وحتى من قبلها، بسبب كثرة الانتهاكات التي ارتكبها النظام بحق الآلاف من الشبان والنساء داخله، وتشير تقارير حقوقية سابقة، إلى أن عدد من قضوا داخل السجن يقترب من 30 ألف معتقل.
وكشفت "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" في تقرير صدر في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، بعنوان "الهيكلية الإدارية لسجن صيدنايا وعلاقاته التنظيمية"، تفاصيل تستند إلى معلومات جمعتها من معتقلين سابقين ومنشقين عن النظام السوري؛ تشمل البنية الإدارية والتنظيمية في السجن، وتسلسل القيادة والأوامر فيه، وذلك بداية من مرحلة دخول المعتقل إلى السجن الواقع في محافظة ريف دمشق (جنوب غرب).
وكشف التقرير عن ارتكاب عمليات تعذيب وقتل واسعة وممنهجة للمعتقلين في سجن صيدنايا، وكلها ترقى إلى جرائم إبادة وجرائم ضدّ الإنسانية. كما وصف مخطط السجن وهيكله الإداري بالتفصيل، وعلاقته ببقيّة أجهزة النظام السوري ومؤسساته الأمنية، وكيف جرى تحصينه عمداً لصدّ الهجمات الخارجية المحتملة، وقمع المعتقلين داخله.
ولا توجد بعد أرقام دقيقة حول أعداد المعتقلين الذين كانوا في سجن صيدنايا لحظة اقتحامه من قبل مقاتلي المعارضة، لكن "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا"، تؤكد أن "جميع المعتقلين الذين كانوا في السجن خرجوا بحلول الساعة الحادية عشرة من صباح الأحد 8 ديسمبر/ كانون الأول"، ونفت وجود سجون سرية أو زنازين تحت الأرض، محذرة الأهالي الذين يبحثون عن أبنائهم من الاقتراب من بعض المواقع التي ذكرتها داخل السجن، لا سيما محيط السجنين الأحمر والأبيض، لوجود ألغام في الطرقات الترابية.
وفي تقرير نشر في بدايات عام 2017، وثقت منظمة "العفو الدولية" إعدامات جماعية نفذها النظام السوري بطرق مختلفة بحق المعتقلين في سجن صيدنايا. وقال التقرير الذي حمل عنوان "المسلخ البشري"، إن "إعدامات جماعية نفذها النظام السوري بحق 13 ألف معتقل، أغلبيتهم من المدنيين المعارضين بين عامي 2011 و2015. إنه المكان الذي تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء".
يشار إلى أن آلاف السوريين احتشدوا الإثنين أمام سجن صيدنايا، بانتظار معرفة مصير أقارب لهم معتقلين. وفي الطريق المؤدي الى السجن، اصطف طابور من السيارات امتد على طول نحو سبعة كيلومترات، ما دفع المئات إلى المتابعة سيراً على الأقدام. ومع استمرار منظمات إنسانية في القيام بعمليات بحث داخل السجن، بقي كثر منهم حتى وقت متأخر ينتظرون معرفة معلومات عن أقارب لهم.