لم يتمكن أي من سكان أحياء وسط العاصمة الليبية طرابلس من النوم ليل السبت الماضي، من جراء الاشتباكات التي اندلعت بشكل مفاجئ في شوارعهم وأزقتهم الضيقة، وبعضهم لم يرجع حتى الآن إلى بيته الذي غادره خوفاً، أو لتعرضه لأضرار خلال الاشتباكات.
كان بشير بن دله وجيرانه يتابعون أنباء متداولة حول إمكانية وقوع صراع وشيك بين الأطراف الحكومية المتصارعة، لكنّ أيًّا منهم لم يتوقع أن تكون أحياؤهم ساحتها، يقول لـ"العربي الجديد": "كنا طيلة السنوات الماضية في مأمن من أي صراع، وعدوان (اللواء المتقاعد خليفة) حفتر الذي استمر نحو عام ونصف العام كان بعيداً عنا، حتى في عام 2011، كنا نشاهد الحرب عبر التلفزيون".
وخلّف الاشتباك الأخير 191 ضحية، موزعين على 32 قتيلاً، و159 مصاباً لا يزال 102 منهم في المستشفيات، بينما غادر الباقون بعد تلقيهم العلاج، وفقاً لإحصاء نشرته وزارة الصحة التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، صباح الأحد الماضي.
لم تحدد السلطات ما إذا كان الضحايا مدنيين، أم أن بينهم عسكريين كانوا مشاركين في الاشتباكات، لكنّ مالك سبيطة، وهو ناشط مدني في حي باب بن غشير الذي كان مركز الاشتباكات، يرى أن عدد الضحايا أكبر من ذلك بكثير، موضحاً لـ"العربي الجديد"، أن "ضحايا الخصم عادة لا يدخلون ضمن الإحصاء المعلن، بالإضافة إلى الحديث عن ضحايا من بين العمالة الوافدة، فالأحياء السكنية الضيقة تضم مساكن للعمالة الأجنبية، وأغلبهم أفارقة".
ورغم اندلاعها في حي باب بن غشير وشارع الجمهورية اللذين تقع فيهما مقرات عسكرية للطرفين المتصارعين، إلا أن رقعة الاشتباكات توسعت لتضم أحياء بومشمامة، والمسيرة، وبلخير، وشارع الزاوية، وشارع جمال عبد الناصر، وأطرافا من المدينة القديمة، وعاش سكان هذه الأحياء "رعب الحرب" وفقاً لحورية العكاري، القاطنة في شارع الزاوية، والتي تؤكد لـ"العربي الجديد"، أن "الاشتباكات استمرت لأكثر من ست ساعات، وأصاب الرصاص شرفة منزلي. أزيز الرصاص وضجيج السيارات المسلحة كانا كبيرين، ولم يثنهم صراخ الأطفال والنساء عن مواصلة إطلاق الرصاص".
وتضيف: "كان قلبي يعتصر ألماً وأنا أسمع صراخ الأطفال، وأرى الشباب والفتيات يتساءلون عن مصير امتحاناتهم المدرسية بعدما ضاعت كتبهم بين الأنقاض. ومن الوقائع التي علقت في ذاكرتي، مشهد هروب بعض نزلاء مستشفى شارع الزاوية، وهو المستشفى المركزي في طرابلس. في لحظات هدوء الاشتباكات، كنا نرى المرضى يركضون باتجاه المنازل المجاورة، وباعتقادي أن المستشفى كان خالياً من الأطباء، ولم يكن به أحد سوى المرضى".
وتختم بالقول: "عاد القادة والمقاتلون إلى بيوتهم في صباح اليوم التالي، وتركوا السكان يعانون ما خلفوه خلال الاشتباكات. عادوا تاركين وراءهم الدمار، وخيام العزاء".
فقدت حورية سيارة ابنتها التي احترقت بالكامل، في حين احترق منزل بن دله، ما اضطره إلى اللجوء مع زوجته وأولاده الثلاثة إلى منزل أحد الجيران. يقول: "كان الانتقال إلى بيت جاري في ظل الاشتباكات أشبه بعبور جبهة حرب مشتعلة، وفي الصباح كانت النيران قد أتت على كل شيء في منزلي".
ويشير أحد الشباب المتطوعين لتنظيف الأحياء المتضررة من مخلفات الاشتباكات إلى أن أسراً لم ترجع إلى منازلها بسبب احتراقها كلياً أو جزئياً، ويضيف أنه طالع أضراراً بالغة في ممتلكات سكان شوارع الزاوية والجمهورية وباب بن غشير.
وصباح الأحد الماضي، أصدرت حكومة الوحدة الوطنية تكليفاً لبلديتي طرابلس المركز وأبوسليم، لحصر الأضرار الناجمة عن الاشتباكات، وإعداد تقارير في غضون أسبوع، لتحديد قيمة التعويضات للمتضررين، ومعرفة الأضرار التي لحقت بالمباني الحكومية.
من جهته، لا يعول زكريا البكوش، القاطن بحي باب بن غشير، على إجراءات الحكومة أو وعودها، موضحاً لـ"العربي الجديد"، أنه يسكن بالقرب من "فندق ريكسوس" الذي اتخذته شخصيات سياسية مقراً لها خلال السنوات الماضية، والذي تعرض للمداهمات والهجوم المسلح أكثر من مرة.
يضيف البكوش: "تضررت شقتي في عدد من الاشتباكات السابقة، وطُلب مني اللجوء إلى المحاكم العسكرية لطلب التعويض، باعتبار أن المتصارعين عادة يتبعون جهات عسكرية، لكنّي لم أحصل على شيء، واضطررت لإصلاح الأضرار التي أصيب بها المنزل على نفقتي الخاصة".
ويتابع: "الجميع يترك السكان لمواجهة مصيرهم وحدهم، بينما تتواصل اشتباكات وخلافات المتصارعين على السلطة، ودائماً يصلح الأهالي مساكنهم بأنفسهم، ومن احترقت سيارته أو متجره فلن يعوضه أحد. قضايا المواطنين دوماً محل متاجرة بين السياسيين، لكن على أرض الواقع، تضيع حقوقنا في ظل اتهام كل طرف للآخر بالمسؤولية عما حدث، وتبرئة نفسه من المسؤولية".