لم تتوقف آثار الحروب والنزاعات في ليبيا، وما خلفته من نزوح وتهجير جماعي للسكان، عند حدّ السياسي، بل طاولت مستويات أخرى من بينها صحة الأطفال الذين يعاني قطاع كبير منهم من أمراض سوء التغذية. وحذرت منظمات دولية عدة، معنية بحقوق الأطفال من تزايد المخاطر التي تواجههم في ليبيا، من دون أن يُعرف عددهم على وجه التحديد بعد توقف الإحصاءات الرسمية في البلاد منذ عام 2012. وفي هذا الإطار، أشارت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إلى أنّ 16 مليون طفل ما دون سن الخامسة في دول النزاعات، من بينها ليبيا، يعانون من سوء التغذية.
وبينما تؤكد طبيبة الأطفال، نجاح عاشور، على تفشي سوء التغذية بين الأطفال، فهي لم تتعرف على البيانات التي حددت "يونيسف" على أساسها هذا العدد، وما هي حصة ليبيا منها، مؤكدة أنّ وزارتي الصحة بحكومتي ليبيا، الوفاق في طرابلس والمؤقتة في البيضاء شرقي البلاد، لا تمتلكان إحصاءات بشأن عدد الأطفال الذين يواجهون خطر الأمراض.
وحتى عام 2014، أكد تقرير المسح الوطني لصحة الأسرة الذي أعدته مصلحة الإحصاء والتعداد الحكومية أنّ 69 في المائة من الأسر الليبية تعاني من صعوبات في الوصول إلى الغذاء، وتشير بيانات التقرير إلى أنّ سوء التغذية خلف 38 في المائة من أطفال هذه الأسر ما دون سنّ الخامسة يعانون من قصر القامة المتوسط والحاد، و12 في المائة يعانون من نقص حاد في الوزن، وهي نسب دقيقة، لكنّ مرور ستّ سنوات عليها أفقدها حيويتها اللازمة لبناء خطط لمواجهة أمراض سوء التغذية، بحسب عاشور. وتشرح عاشور لـ"العربي الجديد" أنّ "النسبة المرتفعة للأسر غير القادرة على الوصول إلى الغذاء مرتبطة بمناطق الحرب المستمرة حتى الآن، ما يعني تزايد أعداد هذه الأسر أو تناقصها، ولذلك لا يمكن بناء خطط على هذه الإحصاءات". وتشير إلى أنّ أقرب مؤشر لمواجهة خطر تلك الأمراض هو رصدها بحسب أماكن تفشيها. وبتفصيل أكبر، تؤكد عاشور أنّها رصدت، عبر عملها في أكثر من عيادة خاصة في العاصمة طرابلس، تفشي أمراض "التقزم والكساح وفقر الدم" بين الأطفال منذ عام 2016، وبشكل متزايد حتى العام الجاري، ما يشير إلى أنّ سوء تغذية الأطفال دخل في مرحلة الأزمة. وتشير عاشور إلى أنّ كلّ الإحصاءات والتقارير الدولية باتت اليوم قديمة، ومن بينها تقرير للبنك الدولي عن تنمية الطفولة في ليبيا صدر قبل أربعة أعوام. وتعتبر عاشور أنّ التقرير، بالرغم من قدمه يمكن البناء على إحصاءاته القريبة من الواقع، فهو يؤكد معاناة خُمس أطفال ليبيا (21 في المائة تحديداً) ما دون سن الخامسة، من التقزم بسبب سوء التغذية. تتابع: "التقرير يؤكد أيضاً أنّ نصف أطفال ليبيا (52 في المائة تحديداً) يعيشون في أسر تتناول الملح المعالج باليود، مما يترك النصف الآخر من الأطفال في ليبيا عرضة لخطر ضعف النمو المعرفي". وتشرح بالقول إنّ نسب اليود في الأملاح تتأثر بشكل مباشر بشكل المياه المعبأة التي تشربها الأم أو طفلها، إذ إنّها المياه الوحيدة المتاحة للشرب حالياً.
لكنّ الباحث في المختبر المرجعي الحكومي، عيسى النطاح، يشير إلى أنّ انتشار التقزم وأمراض أخرى متصلة بسوء تغذية الأطفال في البلاد، ناتج عن تراجع وصول الأسر إلى التحصينات التطعيمية الخاصة بالطفل في أشهر عمره الأولى، لافتاً إلى أنّه رصد أطفالاً تجاوز عمرهم السنتين ولم يتحصلوا على فرص التطعيم. ويلفت النطاح في حديثه إلى "العربي الجديد" إلى مصاعب عدة تواجه تغذية الأطفال منها نزوح أسرهم المستمر بسبب الحروب، وتخلخل البنية الأمنية في البلاد التي دفعت بكثير من العصابات لقطع الطرقات أمام وصول المواد الأساسية الغذائية والاستشفائية الخاصة بالطفل، والأدوية والتطعيمات في مقدمتها. ويتحدث النطاح عن وفيات في أوساط الأطفال بسبب سوء التغذية، لكنّه يؤكد أنّها قليلة مقابل انتشار أمراض تهدد صحة الطفل في المستقبل مثل "فقر الدم وهشاشة العظام" معتبراً أنّ مستويات الفقر هي أيضاً من أسباب تراجع مستوى غذاء الأسرة، ما يؤثر مباشرة على الأطفال سواء حديثي الولادة أو من هم دون الخامسة.
وفي مقابل تناقص التطعيمات وحليب الأطفال، اضطر نور الدين القذافي، في سبها، لمراجعة طبيب شعبي لعلاج طفله من الكساح، قائلاً: "لم يستطع مستشفى المنطقة إلا تحديد نوع المرض وسببه إذ أكد أنّه ناتج عن نقص فيتامينات وسوء التغذية" لكنّه يؤكد أنّ العلاجات بالمستشفى غائبة تماماً بسبب وقوع المنطقة في أقصى الجنوب البعيد عن المدن الكبرى. يعبر القذافي في حديثه إلى "العربي الجديد" عن ارتياحه للعلاج الشعبي الذي يخضع له طفله، مشيراً إلى الإقبال الكبير على الطبّ الشعبي في علاج الأطفال، لكنّه يطالب بضرورة التفات الجمعيات الخيرية لتوفير الأمصال والأغذية المكملة للأطفال بعد عجز السلطات عن توفيرها.
وهو ما تلفت عاشور إلى أهميته، إذ يلعب الحليب الصناعي والمكملات الغذائية دوراً في الحدّ من أمراض سوء التغذية، بسبب تراجع الرضاعة الطبيعية لدى النساء لأسباب عدة منها صحية. لكنّ عوض الساعدي، وهو صاحب صيدلية "البسمة" في طبرق أقصى شرقي البلاد، يلاحظ تراجعاً في إقبال الأسر على شراء المكملات الغذائية والحليب الصناعي المطروح في السوق بسبب انتشار الغش والتزوير في تواريخ صلاحيتها، التي تسبب في كثير من الأحيان دخول الأطفال إلى المستشفيات. ويقول الساعدي لـ"العربي الجديد": "بحسب خبرتي، لا تتوفر العناصر اللازمة للطفل في أغلب أنواع المكملات أو الحليب المباع في الأسواق" مشيراً إلى أنّها تستورد بطرق غير شرعية من مصانع تجارية غير معتمدة لدى الدولة.