في السنوات الأخيرة، تعرّض أطباء ذوو مواقف محايدة لضغوط وملاحقات من معظم أطراف النزاع، ما تسبب في هروبهم وهجرتهم إلى خارج البلد، واليوم أصبحت كل المرافق الصحية العامة من مستشفيات ومستوصفات تعاني من نقص كبير في الكوادر الطبية.
تأثر الواقع الصحي في أنحاء سورية بهجرة الأطباء التي اعتبرت ظاهرة شائعة جداً في السنوات الأخيرة، خصوصاً في المناطق الأقل استقراراً ومنها تلك الموجودة في الجنوب. وشهدت محافظتا السويداء ودرعا تحديداً رحيل عدد كبير من الأطباء المتخصصين إلى دول في الخليج العربي وأفريقيا بموجب عقود عمل، في حين حصل آخرون على لجوء في دول أوروبية.
وتفيد تقارير إعلامية بأن بين 50 و70 ألف طبيب هاجروا إلى خارج سورية بين عامي 2011 و2022، في حين عرض تقرير سابق نشرته "العربي الجديد" لسفر مئات الممرضين بشكل جماعي (على دفعات) نحو ليبيا رغم الحرب الذي اندلعت لسنوات فيها، انطلاقاً من قناعتهم بأن الحياة في سورية لم تعد تطاق. ورغم المشاكل العديدة التي صادفتهم باختلاف اختصاصاتهم في ليبيا، ودفعهم مبالغ مالية كبيرة لسماسرة قرروا الاستمرار. وتقاضى بعض من هاجروا إلى ليبيا والصومال والعراق تحديداً رواتب وصلت إلى ألفي دولار شهرياً.
يقول مرادن الذي يعمل في القطاع الصحي بمحافظة درعان لـ"العربي الجديد": "لم يكن الوضع المادي السبب الرئيسي في هجرة الأطباء، إذ تأثرت القرارات بالوضع الأمني وفرض الخدمة الإلزامية، وأيضاً بالمواقف الشخصية من النظام. وفي مستشفى درعا الحكومي تراجع عدد الأطباء المسجلين في قسم أمراض القلب من 16 قبل سنوات إلى أقل من 5 حالياً".
يضيف: "لا يقتصر النقص في الكوادر الصحية على الأطباءن إذ يشمل الممرضين وفنيي التخدير وتخصصات مهمة أخرى، وتعتبر ظروف العمل الحالية سيئة جداً بالنسبة إلى جميع العاملين، كما تلاحق المخاوف الأمنية الأطباء الذين بقوا في البلاد، فهم ضمن مطامع أفراد العصابات والمليشيات الأمنية التي تعمل لصالح النظام باعتبارهم يستطيعون تسديد فدى مالية في حال تعرض أولادهم للخطف. ولأن الأطباء يحرصون على تعليم أبنائهم في شكل جيد للحصول على شهادات جامعية قد تجعل حياتهم أفضل، يشكل ذلك سبباً إضافياً لاختيارهم الهجرة إلى خارج سورية".
وكان نقيب أطباء درعا أكرم الخيرات قد صرح بأن "أكثر من 300 طبيب يمثلون ثلث عدد الأطباء المسجلين هاجروا إلى خارج سورية، لذا تعاني مستشفيات المحافظة من نقص في العدد، علماً أن بعضها لا تحتوي إلا على طبيب متخصص، وهذه مشكلة كبيرة تجبر المستشفيات على الاستعانة بأطباء من العاصمة دمشق، وتعتبر معالجتها أمراً صعباً وطويلاً".
ويضطر سكان درعا إلى حجز مواعيد قد تحدد بعد أكثر من شهر لزيارة طبيب. ويقول الدكتور سعيد أبو هاني لـ"العربي الجديد": "تكاد أن تنقرض تخصصات طبية في محافظة السويداء ما يحتم نقل السكان مرضاهم إلى دمشق. ويعرف الجميع الأسباب التي تحفّز الأطباء على الهجرة، وبينها المردود المادي الضعيف، والوضع الأمني السيئ، واحتمال استدعائهم إلى احتياط الجيش وفرض تأديتهم الخدمة الإلزامية، وأيضاً عدم إيجاد خريجين جدد عدداً كافياً من المتخصصين في المستشفيات العامة لمتابعة تحصيلهم العلمي في سنوات الاختصاص، وقصدهم مستشفيات دمشق في انتظار توفر فرص للسفر والهجرة.
وكان محافظ حماة محمد زنبوعة قد دعا في المؤتمر السنوي لصيادلة حماة، الذي انعقد في 14 فبراير/ شباط، إلى ضرورة أن تعمل الحكومة للحدّ من تسرّب الكوادر الطبية والصحية، خصوصاً الصيادلة، ومعالجة موضوع نقص الأدوية النوعية والمزمنة، وتوفيرها من مصانع الأدوية، وإبدال تلك المنتهية الصلاحية".
ويلفت الدكتور في الصحة العامة محمد الصالح، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن "أسباب مغادرة الأطباء مناطق سيطرة النظام السوري كثيرة، وفي مقدمها الواقع الأمني، وملاحقة الأطباء، خصوصاً أولئك الذين ساهموا في علاج جرحى ومصابين خلال الاحتجاجات السلمية الأخيرة".
يتابع: "يملك الأطباء تطلعات وآمال خاصة، ومعظمهم هاجروا ولم يبقَ منهم باعتقادي إلا نسبة 10 في المائة، استناداً إلى ملاحظاتي عن المسيرة المهنية لزملائي في الجامعة، وبعدها من تخرجوا في الدفعة التالية، وأيضاً أطباء قدماء. واضح أن الاعتقالات أثرّت كثيراً على الأطباء الذين تعرّض بعضهم إلى ابتزاز مالي، وأجبروا على دفع مبالغ لشبيحة، وأيضاً مشكلات الانهيار الاقتصادي والاختلاف في الرواتب التي تمنحها الدولة والتي تعتبر أفضل في بعض المناطق المحررة. وإذا كانت الأوضاع المادية والهروب من الجيش من بين الأسباب الرئيسية الأخرى للهجرة، فثمّة أسباب خاصة أخرى".
ويتحدث نعيم الحوري، وهو موظف حكومي، لـ"العربي الجديد"، عن أن "المواطنين يعانون حالياً في الحصول على رعاية صحية بسبب التكاليف الباهظة للعلاج الطبي. وفي ظل نقص التخصصات الطبية في مجالات عدة يُجبر المواطنون على الذهاب إلى دمشق، ما يزيد الأعباء عليهم على صعيد تكاليف السفر والتنقل وغيرها. وهم يقصدون أطباء يعرفونهم خارج سورية من أجل تشخيص حالاتهم استناداً إلى تحاليل طبية وصور أشعة يرسلونها إليهم تمهيداً لأخذ توصيات علاج منهم. وهذا أمر شائع حالياً، حتى أن أشخاصاً يذهبون إلى مناطق في شمال سورية لإجراء عمليات جراحية لأن تكاليفها مرتفعة في دمشق أو حتى غير متوفرة بسبب نقص المتخصصين".
وفي محاولة لمعالجة بعض المشكلات التي يواجهها القطاع الطبي في السويداء، بدأ مسؤولون محليون في التفكير بإنشاء وإدارة فرق طبية في قرى وبلدات وأحياء المدن الكبيرة، بدعم من أطباء مغتربين في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وبالشراكة مع جمعيات خيرية أسسها مغتربون من السويداء في المهجر. وقرروا تطبيق مبدأ اللامركزية الإدارية في تحديد الاحتياجات الصحية للمناطق من خلال تشكيل فريق في كل منطقة يضم ممرضين وطبيباً أو اثنين لكل 5000 نسمة ومنحهم تعويضات معقولة وحقائب إسعافية.