في غرفة نومها التي دمّر الزلزال واجهتها وجعلها مشرعة على الهواء الطلق، تصرّ أم منير على أن الموت وحده يمكنه أن يقتلعها من شقتها التي تحضن ذكرياتها وعائلتها في مدينة حلب في شمال سورية.
وتقول أم منير (55 عاماً) التي تعيش وحدها في الطابق الرابع من مبنى في حي المشارقة لوكالة فرانس برس: "لا شيء يُخرجني من منزلي سوى الموت (..) حينها سأخرج مباشرة إلى المقبرة".
وتضيف بينما تناثرت الحجارة على سريرها وتضرر أثاث غرفتها الخشبي التقليدي "نحن أبناء عزّ ومال، لكن الحرب غيّرت أحوالنا. لم ننزح حتى في أقسى سنوات الحرب ولن ننزح الآن".
إثر الزلزال المدمر في السادس من الشهر الحالي والذي ضرب سورية وتركيا، مودياً بحياة قرابة 46 ألف شخص في البلدين، انهار المبنى المجاور بالكامل. وانهارت معه الواجهة الخلفية للمبنى الذي تقطن فيه المرأة والمؤلف من سبعة طوابق. وباتت غرف النوم فيه أشبه بشرفات مكشوفة.
وحيدة، تلازم منزلها رغم إدراكها للخطر الموجود، وكذلك يفعل عدد من جيرانها.
وتقول بينما ترتدي معطفاً أسود فوق ملابسها يقيها البرد، وتتواصل عبر هاتفها الخلوي مع ابنيها المقيمين خارج سورية "المبنى متصدّع ونعلم أنه مهدد بالانهيار، لكننا عشنا طيلة سنوات الحرب متكلين على الله، ونؤمن أنه سيحفظنا".
بين صيف 2012 ونهاية العام 2016، حطّت الحرب رحالها في مدينة حلب، ثاني كبرى المدن السورية والتي كانت تعد العاصمة الاقتصادية للبلاد. وشهدت المدينة جولات من المعارك. وتمكنت قوات النظام من استعادة السيطرة على الأحياء الشرقية حيث تمركزت الفصائل المعارضة، بعد سنوات من الحصار والقصف بدعم جوي روسي.
"اعتدنا الخطر"
لم تدفع المعارك أم منير إلى مغادرة منزلها القريب من خط التماس سابقاً، ولا الهزات الارتدادية التي تجد نفسها تهرول إلى الشارع في كل مرة تتكرر فيها. وتروي كيف تمضي غالبية وقتها لدى جارتها في الطابق الأول ليتسنى لهما الخروج فوراً.
وتوضح "لا تستطيع جارتي الجري، لذلك أسندها بيدي ونجري بأسرع ما نستطيع إلى الساحة المجاورة".
بعد الزلزال الجديد الذي ضرب تركيا وسورية، مساء الإثنين، غادر علي الباش (55 سنة) وعائلته منزلهم في الطابق الأول من المبنى ذاته.
ويروي، لوكالة فرانس برس، بينما يجلس على حجر صغير داخل غرفة النوم التي سقطت خزانتها إثر انهيار الجدار ونقل بقية أثاثها إلى غرفة أخرى في المنزل "خرجت ليل أمس مع أولادي وزوجتي إلى الحديقة المجاورة، وعدنا بعد انتهاء الهزة"، موضحاً "نحن على هذا المنوال منذ الزلزال الأول قبل أسبوعين".
ورغم أنّ عمارتهم آيلة للسقوط في أي لحظة، لا يتردّد الباش وعائلته في العودة إلى المنزل المتصدّع للنوم.
ويقول بينما ينفث دخان سيجارته عالياً "ما من مكان آخر نتوجه إليه. اعتدنا الخطر، كان منزلنا على خطّ تماس طيلة الحرب، وسقطت علينا القذائف وأصابت الصواريخ عمارتنا".
ويضيف "بعد الزلزال، بتنا نعيش بدون جدار ونشرف مباشرة على الدمار" في إشارة إلى ركام المبنى الملاصق الذي انهار تماماً.
وقضى أكثر من ثلاثين شخصاً في حي المشارقة جراء انهيار مبنيين فيه على رؤوس قاطنيهما. ووصل عدد الأبنية التي دمّرها الزلزال في مدينة حلب إلى 54، وفق حصيلة رسمية.
"سأموت من الحزن"
في المنزل ذاته، تختنق أمينة رسلان (85 سنة)، والدة الباش، بدموعها حين تتذكر كيف كان منزلها. تشير إلى الجدار المدمّر وتقول "هنا كانت لوحة رسمها ابني، وهناك كانت الخزانة وقربها الساعة"، مضيفة "انهار كل شيء مع الجدار الذي سقط".
وتتابع "عشنا في المنزل خمسين سنة ولا أستطيع التأقلم الآن مع مكان جديد (..) لم نعتد أن نسكن عند أحد أو في مراكز إيواء، ولا قدرة لدينا على استئجار منزل جديد".
وبينما يجلس أحفادها حولها يكررون الكلام على مسامعها، تقول السيدة المسنّة "خسرت اثنين من أولادي خلال الحرب. لا أريد أن أخرج من منزلي (..) لا أريد أن أخسر المزيد".
وفي حين لا تزال هذه المسنة قادرة على البقاء في منزلها حتى الآن، لم يجد محمّد جاويش (63 عاماً) خياراً أمامه سوى الانتقال للإقامة مع عشرات العائلات في مخيم أقيم على عجل في إحدى ساحات حي بستان الباشا في مدينة حلب، بعدما انهار جزء من المبنى حيث كان يقطن وبات الجزء الآخر غير صالح للسكن.
ويقول بينما تملأ الدموع عينيه وهو يشاهد أحفاده يلهون بكرة قدم مهترئة وبعضهم حُفاة، "لو بقي لدي منزل لما وجدتني أجلس هنا"، متحسراً على ما خسره من منزل وأثاث ومدخرات.
لم يتوقع الرجل أن يعود يوماً إلى "نقطة الصفر" على حد تعبيره، جراء زلزال مدمّر جعله ينتقل مع عائلته وعائلة ابنته للإقامة في خيمة لا تتخطى مساحتها الخمسة أمتار مربعة.
بعد لحظات صمت ثقيلة، يعبّر الرجل عما يختلج صدره من مشاعر. ويقول "أشعر بضيق في صدري في هذه الخيمة الضيقة، لذا أجلس خارجها معظم الوقت". ويتابع بحزن شديد "أشعر أنني سأموت.. جراء الحزن في داخلي".
(فرانس برس)