استمع إلى الملخص
- محمد البريم وجد منزله مدمراً جزئياً، لكنه لم يتعرف على منطقته بسبب الدمار الشامل، وأكد على تمسكه بأرضه رغم الخسائر.
- إبراهيم العبادلة فقد منزله ومزرعته، وعبر عن حزنه لفقدان مصدر رزقه، مؤكداً أن الحرب تستهدف الإنسان والحيوان والنبات الفلسطيني.
أمَل أولئك الذين عادوا إلى شرق خانيونس أن يجدوا بيوتهم أو بعضاً منها، إلا أنهم لم يجدوا غير الدمار والأشلاء والأرزاق التي سُوِّيت بالأرض، ولم يتبقَّ لهم أي خيارات أخرى.
توجه عدد من عائلات المنطقة الشرقية لمدينة خانيونس، بعد تحرك مركبات الدفاع المدني المهترئة نحو شرقها، مسرعة معها على أمل أن تجد منازلها، وإن كانت متضررة. أفراد هذه العائلات راضون بالنصيب، لكن آمالهم تحطمت تماماً بعدما وجدوا المنازل مدمرة والشهداء على الأرض، وكان البعض قد حاول الهرب فأُعدم.
وأعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن بلدة بني سهيلا شرق خانيونس "منطقة منكوبة"، بعد تدمير الاحتلال كل معالمها، وهي البلدة المطلة على شارع صلاح الدين من الناحية الشرقية، وتعتبر من أكثر البلدات المنتجة للمحاصيل الزراعية، ومن البلدات التي أخليت أربع مرات منذ بدء العدوان الحالي.
كذلك أعلن الدفاع المدني تدمير 90% من المنطقة التي تضم عدداً من القرى والبلدات. ووصل عدد الشهداء حتى صباح أمس الأربعاء إلى نحو 310 شهداء في مدينة خانيونس والمنطقة الشرقية منذ بدء العملية البرية الإسرائيلية، وكانت معظم الجثامين متحللة بسبب درجات الحرارة المرتفعة، فيما تستمر عمليات انتشال بقية الشهداء.
ولا يزال البحث عن عدد من المفقودين مستمراً في ظل الإبلاغ عنهم في وقت سابق، وسط صعوبة تنقل مستمرة من قبل عناصر الدفاع المدني بعد إغلاق الطرقات وتدمير 90% من البنية التحتية شرقي خانيونس، ومنع قوات الاحتلال طواقم الدفاع المدني سابقاً من انتشال الجرحى، ما تسبب بوفاتهم وتحلل جثامينهم.
عاد محمد البريم (58 عاماً) إلى منزله الذي كان مدمراً جزئياً ليرى أن الحيّ الذي يقيم فيه في بلدة بني سهيلا دمر بالكامل، حتى إنه لم يتعرف إلى منطقته بسرعة، لأن المنازل المحيطة كانت قد دُمرت خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على المنطقة نفسها في مارس/ آذار الماضي.
تعرّف البريم إلى منزله من خلال الركام والصور المدمرة، أبرزها صورة لوالده بالخلفية الحمراء القديمة، التقطت في استوديو تصوير في قطاع غزة، وكان يرتدي الحطة والعقال، وهي من الصور التي يعتز بها في منزله، وكانت أهم ما يملك اعتزازاً بذكرى والده المزارع الذي كان يزرع ويصدّر إنتاجه إلى جميع المدن الفلسطينية، وأورث المهنة لأبنائه الثمانية وبناته الخمس وأحفاده.
البريم كان أحد الذين رضوا بالنصيب كما يردد الجميع، وكان يقيم بالقرب من منزله المدمر جزئياً. كان يدخل المنزل بكل حذر، لأن عدداً من الأسقف باتت آيلة إلى السقوط. يجلس وأسرته في غرفة بالقرب من باب المنزل، وقد أنشأ خيمة لتتسع لأبنائه وأبناء شقيقه الذي استشهد في ديسمبر/ كانون الأول 2023، بينما أخرج صورة والده الكبيرة ووضعها في مقدمة منزله المدمر جزئياً حتى تبقى أمام عينيه.
دمر الاحتلال الإسرائيلي معظم الأراضي الزراعية في المنطقة الشرقية بالكامل، وهي من المناطق التي كانت تغذي قطاع غزة بنسبة لا تقل عن 30% من الحاجة الغذائية من محاصيل زراعية ونباتات وأخرى طبية بحسب وزارة الزراعة الفلسطينية في قطاع غزة، وكان البريم يملك أراضي زراعية دمرها الاحتلال الاسرائيلي في بداية العدوان. يقول لـ "العربي الجديد": "كل شيء راح، وقلنا العوض على الله، لكن هذه الحرب دمرت كل شيء في داخلنا. كنت مزارعاً مقاوماً في أرضي. أزرع وأطعم الناس وأعمل وأتغاضى عن الخسائر التي تعرضت لها طوال حياتي، وأعيد بناء المنزل وزراعة الأرض، ولا أبالي لأنني رضيت بالنصيب. أنا فلسطيني أعيش في غزة ومتجذر فيها".
يضيف: "قدمت عائلتي مئات الشهداء طوال الحروب الإسرائيلية المتكررة، ومعظمهم مدنيون لا ذنب لهم. أوصانا والدي قبل الوفاة بالأرض والتمسك بها لكونها أعظم شهادة ومقاومة. كنت كذلك، لكن عندما نزحت حافظت على أرواح ما لا يقل عن 40 فرداً وتركت صورة والدي شامخاً. دمروا المنزل ودمروا كل ملامح المنطقة بالكامل إلى درجة أنني قلت إن هذه ليست منطقتنا".
كان البريم من ضمن أكثر العائلات في المنطقة التي تعرضت لأضرار إسرائيلية متكررة طوال سنوات الحصار منذ عام 2007 وما تلاها من اعتداءات إسرائيلية متكررة. تعرض منزله لتدمير في العدوان الإسرائيلي صيف 2014، وفي العدوان الأول في 2008 - 2009، وتعرضت مزرعته لقصف إسرائيلي في أعوام 2012 و2014 و2018 و2021، لكنه كان يعود ليزرع ويبني منزله.
كذلك الحال بالنسبة إلى محمد طافش الذي وجد منزله في بلدة خزاعة في أثناء عودته إلى المنطقة أول من أمس مدمراً بالكامل، علماً أنه كان قد تعرض لأضرار جزئية ودمر عدد من جدرانه ونوافذه وأبوابه. حاول إغلاقها جميعها بالأقمشة والأكياس، حتى إنها كانت ملجأً لأسرته وأسر العشرات ممن وجدوا في المنزل رغم نزوحهم المتكرر.
عاد طافش مكسور الخاطر وقد وجد زوجته وأبناءه وعدداً من أقاربه النازحين ينتظرونه بالقرب من دوار بني سهيلا المدمر، فأخبرهم أن يعودوا إلى منطقة المواصي لعدم وجود منزل ولا معالم. ويقول لـ "العربي الجديد: "عدنا إلى منطقة المواصي حيث تنام النساء في خيمة كبيرة والرجال في العراء على شاطئ البحر من دون غطاء ولا شيء. تغيرت المنطقة بالكامل وأصبحت المنطقة الشرقية مدينة أشباح بكل معنى الكلمة".
تضم المحافظة الشرقية لمدينة خانيونس عدداً من البلدات والقرى، إذ تتكون من بلدة بني سهيلا وبلدة عبسان الكبيرة، وكذلك قرية عبسان الصغيرة وبلدة خزاعة وبلدة القرارة الواقعة شرق شمال المنطقة الشرقية وبلدة الفخاري في المنطقة الجنوبية الشرقية. قبل الهجوم الإسرائيلي على مدينة خانيونس في مناطق وسط المدينة وإخلاء المناطق الشرقية بالكامل في 22 من يوليو/ تموز الماضي، كانت تقدر نسب التدمير في المنطقة الشرقية بحوالى 60% بحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي.
لكن بعد العملية العسكرية الأخيرة، دمر الاحتلال الإسرائيلي جميع مقومات البلدات من بنية تحتية ومزارع ومنازل ومعامل تشغيلية وحتى مصانع، وكانت ضمن أهم المناطق الاقتصادية. وقتلت الطائرات الإسرائيلية عدداً من الحيوانات التي كانت مصدراً لغذاء الغزيين، حتى في الفترة الأخيرة، وكان البعض يتمسك بتربيتها رغم عدم توافر الأعلاف والنباتات.
دمر الاحتلال الإسرائيلي منزل ابراهيم العبادلة (66 عاماً) الذي كان قد بنى منزله في بلدة القرارة عام 1980، وأنشأ فيه شققاً سكنية لأبنائه، وحافظ على مهنته مزارعاً ومربياً للحيوانات، وكان يحافظ على وجود عدد قليل من الخراف التي كانت تلهيه عن هموم الحرب والظروف المعيشية الصعبة التي يسببها الحصار الإسرائيلي، علماً أنه باع الكثير منها.
العبادلة كان متمسكاً بمنزله، وكان يرفض الإقامة في مناطق وسط مدينة خانيونس التي يملك فيها منزلاً. نزح في المرة الأولى إلى شقة سكنية اشتراها منذ سنوات في قلب مدينة خانيونس، لكنه سرعان ما عاد إلى منزله في بلدة القرارة لأنه فضل البقاء بالقرب من مزروعاته. لكن الاحتلال الإسرائيلي دمر شقته السكنية في فبراير/ شباط العام الحالي. وخلال العملية العسكرية الأخيرة، نزح إلى غرب مدينة خانيونس وأنشأ خيمة كان يملكها في منزله، حتى عاد ليجد منزله مدمراً بالكامل.
وجد بين الدمار حمارين وأربعة خراف، وقد نفقت جميعاً، ما أحزنه بشدة. حزن على المنزل الذي عاش فيه 44 عاماً. وجد شعارات باللغة العبرية تقول: "نحن في كل مكان"، في إشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي. وعلق على ذلك بالقول: "هذه أهدافهم. حيوانات وأطفال وأشجار ومزارع وكبار سنّ ومرضى".
ويقول العبادلة لـ "العربي الجديد": "الحيوانات التي قتلها الاحتلال والمزارع كانت مصدر حياة لنا، نحن نعيش في حصار كبير، ولا نستطيع السفر ولا عمل شيء في حياتنا. بنيت لجميع أبنائي شققاً لأنهم متضررون من الحصار وهم حملة شهادات لكنها لا تفيدهم في حياتهم. بعضهم عمل معي في الزراعة رغم تخصصهم في مجال الهندسة". يضيف: "يريدون إذلالنا حتى لا نعود إلى الحياة. أضحك عندما أسمع مصطلح المجتمع الدولي. الحرب ليست على حماس ولا أي حزب فلسطيني، إنما على الإنسان والحيوان والنبات الفلسطيني. هي حملة تطهير عرقي كاملة، كما فعلوا خلال النكبة الفلسطينية عندما دمروا قرى وأشجاراً سعياً لتهويد الأرض".