يعيش الاتحاد الأوروبي ظاهرة متنامية، ومقلقة على المستوى السياسي - الحزبي والأمني، في عدد من دوله، وهي ظاهرة الغضب والإحباط الناشئة عن قيود فيروس كورونا الجديد، والتي تترجم بحركات شعبوية احتجاجية تبدو في ظاهرها عفوية، فيما المخاوف تذهب إلى أنّها أبعد من ذلك، خصوصاً مع تحركات في أكثر من شارع بعنفية متنامية، وحالة غير مسبوقة من التحريض على وسائل التواصل الإلكتروني.
أشارت "العربي الجديد" إلى حالة العنف الذي ظهر في شوارع الدنمارك، في تقارير سابقة، إذ خرج أصحاب الملابس السوداء "من إن بلاك" وبعضهم على طريقة أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بملابسهم العسكرية، ممن يسمون "قدامى المحاربين". هؤلاء صدموا السياسيين والأمنيين في الدنمارك، بتحركات عنيفة وصلت إلى حدّ شنق وحرق رمزي لرئيسة وزراء البلد من يسار الوسط، ميتا فريدركسن، وهتافاتهم: "اللعنة على اليمين واليسار... نحن نريد حريتنا". لكن، بالتزامن مع هذه التحركات كانت هولندا تشهد، للأسبوع الثالث على التوالي، صدامات بين المحتجين والشرطة الهولندية، التي نزلت إلى الشارع بعتادها الكامل. وترافق عنف العاصمة أمستردام مع حرائق طاولت حتى مركز فحص كورونا، من بين أماكن أخرى.
ليست احتجاجات هولندا والدنمارك حالتين معزولتين عن بقية احتجاجات دول الاتحاد الأوروبي. فمنذ بدأت الجائحة في الضرب بعنف، من جنوبي القارة إلى شمالها، كان الشارع، الذي بدا في البداية يغني من على الشرفات في إيطاليا في محاولة لرفع المعنويات، قد تحول إلى حالة تمرد على الإجراءات والقيود التي طالت مدتها. الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية تجمع بين الحركات الاحتجاجية المتوسعة نحو إسبانيا وألمانيا. على الرغم من ذلك، لم تغب نظرية المؤامرة عن منظمي الاحتجاجات، بصرف النظر عن مشاهد الفيروس المرعبة التي صدمت أقاليم الشمال الإيطالي، ومنها نقل الجثث بسيارات عسكرية. فالمتظاهرون باتوا على قناعة، منذ أواخر العام الماضي على الأقل، أنّ فرض القيود والكمامات، وسياسة الإغلاق في أكثر من بلد، ليست إلا "تعزيزاً لفرض مزيد من السلطوية في المجتمعات الديمقراطية".
اليمين المتشدد في ألمانيا استغل، في مناسبات عدة، حالة الإحباط، مشبهاً الإجراءات بأنّها ديكتاتورية. وغير بعيد عنها، وصل الاستقطاب في الدنمارك إلى حالة غير مسبوقة بتراشق يتهم زعيمة يسار الوسط، فريدركسن، بأنّها تطبق سياسة "نازية"، وقد رفع مزارعون، ومربو حيوانات المنك (المتهم بنقل كورونا) رسوماً تشبّهها بالزعيم النازي أدولف هتلر، وبتأييد من أحزاب يمينية متطرفة، وصل الأمر إلى تشبيهها باتباع سياسات كورية شمالية.
في مدن ألمانية عدة، تشكلت جبهة مجتمعية تعبّر عن امتعاضها من طول فترة الإغلاقات وتشديد الإجراءات في البلاد، مع بداية الخريف، واتهمت أحزابا يمينية بالتحريض. وتزامناً مع احتجاجات عنيفة شهدتها إسبانيا وإيطاليا، وبعضها خرج يرمي الكمامات في مدريد رفضاً لتوجيهات الحكومة، اضطرت الشرطة الألمانية إلى استخدام خراطيم المياه ورذاذ الفلفل لوقف تظاهرات عنيفة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بحجة أنّ "التجمعات محظورة". لكنّ وسائل إعلام محلية وصفت تصرفات المحتجين بأنّها "غير مسبوقة في تحدّيها للشرطة الألمانية"، وأنّها باتت "أكثر عدوانية". تلقت قوات الأمن في منطقة بوابة برلين الشهيرة "براندنبورغ تور" الحجارة التي ردّ من خلالها المحتجون، الذين قدّر عددهم بنحو 10 آلاف، على محاولة تفريق تجمعاتهم. وعلى الرغم من أنّ الإجراءات التي انتهجتها المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، وحكومتها الائتلافية، مع بداية الجائحة، لاقت تأييداً شعبياً، فإنّ الإحباط من طول مدة القيود بدأ يخفّض تلك الشعبية، مع شعور المواطنين بأنّ العودة إلى الحياة الطبيعية أمر بعيد المنال، حتى مع الحديث عن اللقاح، الذي سيشكل نوعاً جديداً من الإحباط والتجاذب، بعد تأخر توزيعه من الشركات التي تعاقدت معها دول الاتحاد الأوروبي.
في برلين، لا يمكن تجنب وقوف جماعات اليمين المتشدد في مقدمة صفوف المحتجين، وفقاً لوسائل إعلام محلية وأوروبية. هؤلاء من أقصى الأجنحة اليمينية يستغلون الوباء بتحويله في قضيتهم السياسية إلى أولوية، إلى جانب أصحاب نظرية المؤامرة، مستغلين عملياً مخاوف الشارع والتأثيرات النفسية والاجتماعية لطول مدة الوباء، وما يرافق كلّ ذلك من إجراءات حكومية. تدخّل الشرطة الألمانية القوي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي جاء على خلفية محاولة متظاهري أغسطس/آب الماضي اقتحام البرلمان الاتحادي، وهم من مجموعات وُصفت بأنّها "من أقصى اليمين المتشدد". تصرفات دفعت جهاز الاستخبارات الداخلي الألماني، إلى التحذير من اتساع استخدام العنف بحجة الاحتجاج على قوانين كورونا "بمشاركة مجموعات بعينها". سمّى التحذير الأمني مجموعة "كويردينكر" تحديداً ويعني اسمها "التفكير الموازي" والتي تجتذب مؤيدين من شرق وغرب ألمانيا على حد سواء. ووصفتها الاستخبارات بأنّها حركة تنطوي احتجاجاتها على تصعيد مكثف، مع دعوات لجماعات اليمين المتطرف إلى المشاركة.
في الحركات الاحتجاجية الألمانية يشبهون المستشارة ميركل بهتلر
يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة "آرهوس" الدنماركية، ميكال بانغ بيدرسن، أنّه "بعد عام من تأثير كورونا مباشرة على حياة الأوروبيين، فإنّ الإحباطات تتزايد بين الناس". بيدرسن يبحث في تأثير الفيروس على علاقات وتصرفات البشر في القارة، فيرى أنّ التظاهرات الاحتجاجية المتوسعة "تعكس حقيقة التوتر الذي يعيشه الناس في ظلّ الجائحة، وبالطبع يجري استغلال الإحباط والتوتر لتوجيهه أكثر وبشكل ملموس نحو السلطات الحاكمة".
من ناحيته، يقول الخبير والباحث في شؤون جماعات التشدد اليميني في كوبنهاغن، أندرياس يورغنسن، لـ"العربي الجديد"، إنّ "حالة الإحباط غير مصطنعة، فاقتصاد مجتمعات الدول الأوروبية وحياة الناس الاجتماعية تأثرا بشكل حقيقي، ومَن أفضل من الحكومات التي تفرض قيوداً في استدعاء جماعة اليمين المتطرف والفوضويين ليصبوا غضبهم عليها؟".
يضيف: "العدو خفي، فكورونا بالنسبة لهؤلاء غير مرئي، بل يراه منكروه مجرد مؤامرة خفية على المجتمعات، وبالتالي فإنّ الاحتجاجات التي تأخذ طابعاً اجتماعياً، لها جذورها من قبل الجائحة، لضرب الطبقة والإدارات السياسية الحاكمة، سواء تعلق الأمر بصدامات نابولي (في إيطاليا قبل أشهر) أو محاولة اقتحام الرايخستاغ (البرلمان الاتحادي) في برلين، وشنق مجسمات ورفع شعارات ضد حكومات تفرض القيود".
وما يلاحظه بيدرسن يستدركه أيضاً يورغنسن حول أنّه "قد يبدو عجيباً أن ترى تحركات ممتدة من إسبانيا وإيطاليا جنوباً إلى هولندا وألمانيا وإسكندينافيا شمالاً، ترفع شعارات وتهتف ضد ما تسميها بفاشية الحكومات، بل في الحركات الاحتجاجية الألمانية يشبّهون ميركل بهتلر. لكن في حقيقة الأمر، وهو ما تدركه الأجهزة الأمنية والأحزاب السياسية، يساراً ووسطاً، فإنّها حركات احتجاجية ذات صبغة قومية متطرفة تغطي نفسها باتهام الحكومات الديمقراطية الأوروبية بالديكتاتورية، لأهداف أبعد من الجائحة، ماضياً ومستقبلاً، في مراهنات على تدعيم معسكر اليمين القومي المحافظ".
تفيد معلومات خاصة بـ"العربي الجديد"، في كلّ من برلين وبون وفرانكفورت، بأنّ "نقاشات داخلية، أمنية وتشريعية ودستورية، تجري هذه الأيام، في ألمانيا، وبتوصية من جهاز الاستخبارات الداخلية، على خلفية ثبوت مشاركة قوية لحزب البديل لأجل ألمانيا، اليميني المتشدد، في أعمال العنف، لوضع الحزب على درجة عالية من الخطر على الدستور، خصوصاً لصلات بعض قادته بالحركة النازية، ما يعني أنّه يمكن في حال اتفق المشرعون والمحكمة الدستورية أن يصار إلى حظر عمل البديل لأجل ألمانيا".
هذه المعلومات التي حصلت عليها "العربي الجديد" مؤشر على مدى استغلال أجنحة اليمين القومي المتشدد في أوروبا للجائحة لضرب الطبقة السياسية التقليدية، تمهيداً للحصول على نجاحات انتخابية وتسجيل مواقف.
بعض مراقبي التحركات الاحتجاجية، ومنهم من لا يرتبط بتيارات سياسية، يقرأ مشاركة حزب البديل لأجل ألمانيا، وجماعات مؤيدة للحركة الفاشية الإيطالية ورابطة الشمال بزعامة وزير الداخلية الإيطالي السابق، ماتيو سالفيني، على سبيل المثال، مجرد إشارات على مدى استعداد اليمين المتطرف لاستغلال أيّ شيء لنشر أفكاره وجذب مزيد من المؤيدين، باعتبارهم يحافظون على "الحريات" وعلى "مصالح الناس"؛ إذ إنّ سياسات الإغلاق تؤثر على مصالح هؤلاء بالذات، فيما تتركز الهجمات في الشارع على الديمقراطية، في البلدين وغيرهما.
في الاتجاه نفسه، لم يتردد عضو البرلمان الألماني الاتحادي عن "الليبراليين الأحرار"، ماركو بوشمان، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في اتهام حزب البديل، بمحاولة "منع الديمقراطية وجرّ مؤسسات البلاد إلى الجمود بسبب كراهيتهم للمؤسسات الديمقراطية". واتهم بوشمان صراحة هذا الحزب "باستخدام الأصدقاء في اليمين المتطرف في التظاهرات العنيفة في برلين، لتحقيق أهدافه وعرقلة التشريعات التي تحاول مواجهة الجائحة".
الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية تجمع بين الحركات الاحتجاجية
في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، مع تنامي الاحتجاجات في أوروبا، حذر تقرير لمؤسسة "مشروع مكافحة التطرف" في نيويورك، من أنّ "الجائحة الحالية تعزز وتقوّي الحركات العنفية في اليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة". ورأى المركز، أنّ التطرف اليميني يستغل الوباء "لتوسيع تجنيد قاعدة له"، محذراً من خطر هذا المعسكر.
وتلاحظ السلطات الألمانية، في مراقبة استغلال الجائحة، كيف أن تيار اليمين المتشدد، بما فيه البديل لأجل ألمانيا، يبدل تركيزه بحسب الظروف التي يجيد استغلالها. فمن رفعه شعارات ضد المهاجرين والمسلمين، بات الآن التركيز على كورونا وقيوده والتشكيك في اللقاحات. وهو ما ينطبق أيضاً على الحركة النازية الألمانية واستغلالها قيود الوباء لخلق أرضية مؤيدة لها بين الألمان، بالترويج بادعاء أنّها حركة تعمل لأجل مصلحة وحرية الشارع.