شهداء التجويع... أهالي غزة لا يجدون الطعام

02 مارس 2024
أطفال جائعون في مخيم جباليا (داود أبو الكاس/الأناضول)
+ الخط -

تسببت تداعيات الجوع في وفيات عدة بالمنطقة المحاصرة في شمال قطاع غزة، حيث نفدت كل أصناف الأغذية، ونفدت كل الحلول المتاحة للتغلب على نقص الطعام، والتي كان من بينها تناول أغذية منتهية الصلاحية، والاعتماد على الأعشاب البرية، وصولاً إلى تناول أعلاف الحيوانات، وكلها أطعمة تلحق أضراراً بالجسم.
وكشفت وزارة الصحة في غزة، خلال الأسبوع الأخير، عن تسجيل 8 وفيات لأطفال نتيجة الجفاف وسوء التغذية، وهي الحالات التي كانت تتلقى علاجاً داخل مستشفى كمال عدوان في منطقة مشروع بيت لاهيا، ولم يستطع الأطباء إنقاذهم في ظل عدم استجابة المؤسسات الأممية والدولية، الإنسانية والطبية، التي تمت مناشدتها للتدخل، وخلق ممر آمن لنقلهم للعلاج، أو توصيل المساعدات الطبية والغذائية.
وتؤكد تصريحات الغزيين القاطنين في المنطقة الشمالية المحاصرة أن أعداد الوفيات أكبر بكثير مما يتم توثيقه، وأن الكثير من الأهالي لم يستطيعوا إيصال جثث ذويهم إلى المستشفيات والمراكز الطبية.
في بلدة بيت لاهيا، توفيت السيدة أسماء النعسان (50 سنة) بسبب تداعيات سوء التغذية التي وصلت إلى عدم تقبل معدتها الطعام خلال الفترة الأخيرة، وسط تأكيدات من عائلتها أنها كانت تعاني من القيء كثيراً في أيامها الأخيرة، لكنها توفيت في 25 فبراير/ شباط الماضي.
كان عبد الرحمن النعسان يرافق شقيقته في أيامها الأخيرة، ويؤكد لـ"العربي الجديد": "شقيقتي لم تكن تعاني من أية أمراض قبل العدوان، بل كانت صحتها جيدة، لكن العدوان دّمر صحتنا جميعاً. كانت شقيقتي مزارعة، وهي سيدة مثابرة وقوية، وقد اعتدنا على أن ناكل ما نزرع، لكن صحتها تأثرت بشدة، وخسرت الكثير من وزنها، وأصيبت بتقرحات في المعدة، وهزلان وجفاف، واستمر ذلك حتى توفيت". 

لا تصل المساعدات التي تدخل شمالي قطاع غزة إلى غالبية السكان

يضيف النعسان: "أنا أيضاً أعاني من الجوع في ظل عدم وصول المساعدات إلينا منذ وقت طويل، وعدم استجابة المؤسسات الإنسانية، وقد حاولت الذهاب إلى مدينة غزة للحصول على أية أطعمة من نقاط استلام المساعدات في منطقة الشيخ عجلين، لكنني وصلت في المرتين متأخراً، فالمسافة بعيدة من مكان وجود أسرتي بالقرب من مستشفى كمال عدوان. تناولنا أنواعاً من الطعام لم أتصور يوماً أن أتناولها، وصولاً إلى تناول لحم حمار ذبحه جارنا لإطعام أطفاله الجوعى، لكن شقيقتي لم تكن قادرة على تناول اللحوم، وكانت تعاني بسبب تلوث المياه".
يتابع: "كلنا جياع في المنطقة الشمالية، ونسمع عبر الراديو، ونرى على الإنترنت بيانات تعبر عن القلق من أن يدخل الناس في مجاعة، وأقول لهؤلاء إننا نعيش في مجاعة منذ فترة طويلة، وكل محاولاتنا لتأمين الطعام في الفترة الأخيرة فاشلة، وهناك وفيات عديدة في بلدة بيت لاهيا، وفي جباليا بسبب الجوع الشديد، لكن لا يعلم أحد عنها شيئاً، ومن بينهم جارنا الستيني نبيل رياض، والذي توفي في منتصف الشهر الماضي بسبب الجوع وقلة الأدوية كونه مريضاً بالسكري".
في حي التفاح شرقي مدينة غزة، قضت شهيدة الجوع إلهام رجب جحا (17 سنة) في 25 فبراير الماضي، وكانت الفتاة تعاني من شلل دماغي، ولا تستطيع التعبير عن حاجتها إلى الغذاء، ورغم محاولات والدتها تأمين الطعام لها، لكنها عجزت عن تأمين أي شيء في الأيام الأخيرة، خصوصاً مع وجود أسرتها في منطقة بعيدة عن وسط مدينة غزة، وعدم توفر أي أماكن لبيع الطعام، وغياب المساعدات إليها في ظل أن المساعدات.

تزاحم شديد على مساعدات محدودة (داود أبو القص/الأناضول)
تزاحم شديد على مساعدات محدودة (داود أبو الكاس/الأناضول)

تقول والدتها هدى جحا لـ"العربي الجديد": "رغم مرضها، لم تتلق ابنتي أي علاج منذ أشهر، وكنا نحاول البقاء بالقرب منها، وتأمين ما تحتاجه من طعام، وكان كبار السن من أفراد العائلة يحرصون على إطعامها، لكن في الفترة الأخيرة، أصبح الحصول على مياه الشرب إنجازاً، وعلى غرار ابنتي، يمكن أن نموت جميعاً من الجوع في أي وقت. نحن من بين العائلات التي تعرضت لحصار إسرائيلي مشدد في ديسمبر/ كانون الأول ويناير/ كانون الثاني، ونزح زوجي وبعض رجال العائلة إلى جنوبي القطاع، بينما عجزت عن النزوح لتقديم الرعاية لابنتي، وحاول والدها أن يخبر المنظمات الدولية بحالتها، لكنها كانت من بين مئات المرضى المحاصرين في المنطقة، ولم يستجب أحد لمعاناتهم".
ويوضح ابن عم الشهيدة محمد جحا (34 سنة) لـ"العربي الجديد": "الجميع في حالة جوع، وسط عجز كامل عن تأمين الطعام، واستشهد خمسة أفراد من الحي في مجزرة شارع الرشيد، واستشهد اثنان من أبناء عمومتي في 19 فبراير الماضي، حين حاولا الوصول إلى المنطقة الشرقية للبحث عن طعام بين ركام المنازل المدمرة. لم نتناول أي عنصر غذائي مفيد منذ شهر كامل، وأجسادنا هزيلة، والعالم يشاهد هذه المأساة بصمت، لكن هذا الصمت يقتلنا، ونموت ألف مرة في اليوم، ووصل حال الناس إلى البحث عن السحالي لأكلها".

ويعود السبب الرئيسي لتباين مستويات الجوع بين المناطق إلى فصل الاحتلال شمالي غزة عن الجنوب، فضلاً عن تمركز جنود الاحتلال وآلياته في وسط مدينة غزة، ما يعزل الأحياء بعضها عن بعض، بينما تظل مناطق الرمال والنصر القريبة من مجمع الشفاء الطبي، ومناطق مخيم جباليا ومشروع بيت لاهيا القريبة من مستشفى كمال عدوان هي الأكثر اكتظاظاً.

وتظل المعاناة متفاقمة في المناطق البعيدة عن تمركز الناس، إذ لا يحصل سكانها على أي من المساعدات الشحيحة التي تدخل أحياناً إلى شمالي القطاع تحت القصف الإسرائيلي، ومعظم مناطق شمال القطاع لا تتوفر فيها وسائل النقل، حتى أن العربات القليلة التي تجرها الحيوانات توقفت عن العمل بسبب نفوق الحيوانات نتيجة القصف، أو بسبب الجوع، أو لاضطرار أصحاب الخيول والحمير إلى ذبحها وتناول لحومها في ظل نقص الغذاء.

من مخيم جباليا، ينتقد أحمد الملفوح (48 سنة) سياسة توزيع المساعدات، والتي تسمح فقط بحصول الناس القريبين من قلب مدينة غزة عليها، بينما لا يمكن أن تصل إليها العائلات المقيمة في شرقي المدينة، في حي الدرج، وفي أطراف أحياء مثل الشجاعية والزيتون، أو في مناطق الشمال، مثل بلدة ومخيم جباليا، أو بيت لاهيا.
فقد الملفوح ابن عمه حمزة (55 سنة) نتيجة إصابته في الرأس التي تسببت له بنزيف، وكان يرافقه خلال رحلة العلاج الشاقة بسبب عدم توفر الأدوية والمستلزمات الطبية لتعويض فقدانه الدم. يقول لـ"العربي الجديد": "ابن عمي كان شاهداً على أكبر معاناة يمكن أن يتعرض لها إنسان، إذ حرم من حقه في الحصول على علاج مناسب، ثم من الحصول على طعام. الناس في شمالي القطاع أكلوا كل شيء متاح، حتى الحيوانات التي كانت مصدر رزقهم، وهناك أناس ماتوا من شدة الجوع".

المساهمون