يمضي النازحون اليمنيون السنة، بكامل فصولها المتقلبة وأشهرها وأيامها، وهم يصارعون للبقاء على قيد الحياة، في ظروف فيها كثير من القسوة والعناء. وما إن يبدأوا بالتقاط الأنفاس بعد تجاوز مناطق المعارك والنجاة من الكوارث الطبيعية المختلفة من قبيل الفيضانات الصيفية، حتى يحلّ فصل الشتاء الجاف البارد كعدو ثالث لهم إذ يفترس أجسادهم بلا رحمة، ويفاقم حياة الشتات التي تتقاذفهم من جراء نزاع اندلع قبل خمس سنوات، ولا أفق معلوماً لنهايته، ونهاية نزوحهم. الأسوأ أنّهم عالقون بلا أيّ مصلحة أو ذنب حتى، بين طرفي القتال؛ قوات حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي المعترف بها دولياً يعاونها التحالف السعودي - الإماراتي، من جهة، والقوات التي تقودها حركة أنصار الله (الحوثيين) من جهة أخرى وهكذا بات النازحون كبش محرقة بين الطرفين.
وبينما يعيش اليمن أزمة وبائية حادة يغيب عنها كثير من الأرقام الدقيقة الخاصة بالإصابات والوفيات بفيروس كورونا الجديد، وأزمة اقتصادية ومعيشية قاسية جداً تبعاً لظروف عدة، وتدهوراً مجتمعياً في كثير من المستويات والقطاعات ولا سيما الصحية، فإنّ جميع المواطنين متأثرون سلباً بكلّ هذه الأزمات، لكنّ واقع النازحين يبقى الأسوأ على الإطلاق. وفي الفترة الأخيرة، ألقت الحرب المستعرة في عدد من المناطق، تحديداً مأرب والجوف، بعشرات الآلاف من النازحين اليمنيين في العراء، ليكونوا الهدف الأسهل لعوامل الطقس القاسية، وبرودة فصل الشتاء الذي داهم مخيماتهم المتواضعة خلال الأيام الماضية.
وخلافاً للأرقام المليونية التي سجلتها المنظمات الأممية لإجمالي أعداد النازحين خلال سنوات الحرب الأولى، دفع القتال المتصاعد في مأرب منذ مطلع العام الجاري، نحو 160 ألف نسمة تقريباً إلى ترك منازلهم والانتقال إلى مناطق خضراء (بعيدة عن القتال) توفر لهم الأمان النسبي، لكنّها تفتقر إلى الدفء المطلوب في مواجهة فصل الشتاء الحالي. تقول منظمة الهجرة الدولية إنّ 65 في المائة من النازحين الجدد، في حاجة إلى المأوى بدرجة أساسية، وهو أمر مقلق خصوصاً مع بدايات الشتاء.
وباتت مأرب، شرقي البلاد، الحاضنة الأكبر لآلاف الأسر اليمنية النازحة من جحيم المعارك في الأطراف الشرقية للعاصمة صنعاء والجوف والبيضاء، لكنّ أغلب الذين تمكنوا من إنقاذ أنفسهم من نيران المدافع والغارات الجوية، يواجهون صعوبات بالغة في المأوى خصوصاً في ما يتعلق بمواجهة فصل الشتاء الآتي بصقيعه الشديد. وتشهد غالبية المحافظات اليمنية، بما فيها الساحلية، طقساً بارداً وجافاً خلال فصل الشتاء، وتزداد هذه البرودة خصوصاً في المحافظات المرتفعة عن سطح البحر. وتنخفض درجات الحرارة في اليمن عموماً خلال الشتاء، لتتراوح بين 19 درجة مئوية، كأعلى معدل مسجل في هذا الفصل، وتتدنى إلى أقل من 0 درجة مئوية في أدنى المعدلات.
من جهتها، تقول المتحدثة الرسمية باسم منظمة الهجرة الدولية في اليمن، أوليفيا هيدون، إنّ النازحين الذين ليس لديهم مأوى مناسب، معرضون لعوامل الطقس القاسية، وهذا مقلق بشكل خاص في حالة الأطفال كونهم أقل قدرة على التعامل مع آثار الطقس البارد. وتشير هيدون، في تصريحات لـ"العربي الجديد" إلى أنّ غالبية الأسر التي تحتاج إلى الدعم الشتوي، تعيش في مواقع نزوح غير رسمية، حيث يزداد الوضع سوءاً مع تزايد ظروف الشتاء القاسية، والفيضانات المفاجئة، والعنف المتصاعد.
وبحسب المنظمة الدولية، تتفاقم هذه العوامل بسبب تدني دخل الأسر وانخفاض القوة الشرائية وفرص العمل المحدودة، وتنعكس الأزمات الإنسانية والاقتصادية، في عجز العديد من اليمنيين عن توفير الموارد المالية الكافية للاستعداد بشكل كافٍ لموسم الشتاء، ليتفاقم الوضع أكثر بكثير في حالة النازحين المتروكين من دون إغاثة ومساعدات ملائمة غالباً.
ويصل معظم النازحين إلى المناطق الخضراء في مأرب، وليس في حوزتهم إلا القليل من الملابس والأغراض الضرورية، وبحسب منظمة الهجرة الدولية، لا يكون أمامهم خيار سوى اللجوء إلى مواقع مكتظة للغاية في مدينة مأرب والمناطق المحيطة بها، حيث يفتقرون إلى الخدمات الأساسية اللازمة للبقاء على قيد الحياة. وتحتاج قرابة 70 في المائة من الأسر النازحة إلى دعم رئيسي على مستوى المأوى، إذ إنّ الملاجئ المؤقتة مثل المدارس والمرافق الحكومية أو المباني المهجورة، هي المأوى المتاح لمئات الأسر، فيما وجد بعضهم أنفسهم في العراء أو وسط أماكن خطيرة ومكتظة أو محاذية لمواقع عسكرية، لا يملكون من سقف غير الخيام التي لا تحمي من عوامل الطقس المختلفة، ولا سيما البرد.
وتتحمل منظمة الهجرة الدولية العبء الأكبر في دعم النازحين في مأرب، حيث قامت بتأسيس مكتب لها في المدينة، ومن خلاله تمكنت من الوصول إلى أكثر من 25 ألف أسرة نازحة، وإمدادها بالمساعدات. وتذكر المتحدثة باسم المنظمة، هيدون، في سياق حديثها لـ"العربي الجديد" أنّ المساعدات تشمل الرعاية الصحية، والمأوى، وتحسين مواقع النزوح، والمياه والصرف الصحي والنظافة، وخدمات الحماية. مع ذلك، فإنّ الاحتياجات في مأرب مرتفعة جداً وهناك حاجة إلى استجابة أكبر، فضلاً عن ترتيبات لبناء مركز إنساني لدعم استجابة أوسع نطاقاً من خلال توفير مساحة عمل لشركاء الاستجابة. وينتشر في مأرب عدد من مخيمات النزوح، أكبرها مخيم الميل، ومع اتساع رقعة المعارك جنوباً في رحبة، وغرباً في مديرية مدخل ومناطق صرواح، تقفز الإحصائيات يوماً بعد آخر وفقاً للأمم المتحدة. وخلال أسبوع واحد من سبتمبر/ أيلول الماضي فقط، سجّل مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، 353 أسرة نازحة، كانت قد علقت عند محاولتها الفرار من الأعمال القتالية في مديرية رحبة.
وتبعاً لحجم الاستنزاف لقدرات شركاء العمل الإنساني من جراء تضاعف أرقام النازحين، ما زال العجز كبيراً في تلبية الاحتياجات، خصوصاً إمدادات المأوى والمواد غير الغذائية، وفقاً للوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين، التابعة للحكومة المعترف بها دولياً. ويقول سيف مثنى، وهو مدير فرع الوحدة الحكومية بمأرب لـ"العربي الجديد" إنّ هناك احتياجاً لآلاف الأطقم من المواد الإيوائية الطارئة التي لم تلبِّ حتى الآن سوى 50 في المائة من الاحتياج الفعلي للنازحين.
وتعمل المنظمات الدولية على نقل 2000 طقم من المواد الإيوائية الطارئة و1500 طقم من المواد غير الغذائية من مخزون الطوارئ في عدن إلى مأرب لتغطية الاحتياجات الفورية، لكنّها تشكو من الافتقار لوجود شركاء عمل إنساني في الميدان. ووفقاً لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تُبذل جهود لحشد مزيد من الشركاء ليكون لهم وجود في مأرب، المدينة التي ظلت نائية ومحرومة من الخدمات بشكل كبير طوال العقود الماضية قبل أن تشهد انتعاشاً نسبياً خلال فترة الحرب بالذات.
ووفقاً لتقارير حقوقية، فقد تسببت موجة الصقيع خلال العام الماضي، بوفاة 4 نازحين من بينهم طفلة في الرابعة، بأحد مخيمات مديرية الوادي، ومع اشتداد الشتاء منذ وقت مبكر هذا العام من جراء التغيرات المناخية ونسبة الأمطار الغزيرة، يخشى آلاف النازحين أسابيع عصيبة في مخيمات مأرب. كذلك، شهدت محافظة مأرب هذا العام تسجيل النسبة الأعلى لهطول الأمطار، إذ فاض سد مأرب للمرة الأولى منذ إعادة إصلاحه قبل نحو 33 عاماً. ويقول خبراء إنّ اليمن سيشهد هطولاً في أغلب أيام السنة، وليس الصيف فقط كما جرت العادة. وداهم فصل الشتاء، المدن اليمنية بشكل مبكر هذا العام، ومنذ الأيام الأولى لنوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حذّر مركز الأرصاد الوطني، من استمرار الطقس البارد والجاف لأسابيع طويلة تحديداً في المرتفعات الجبلية لمحافظات صعدة وعمران وصنعاء وذمار والبيضاء والضالع، إذ تتراوح درجة الحرارة في هذه المحافظات بين 1 و3 درجات مئوية في أدنى مستوياتها. وتمتد موجة البرد النسبية، إلى المناطق المرتفعة بمحافظات تعز وإب ومأرب ولحج وأبين وشبوة وصولاً إلى محافظة حضرموت الساحلية المعروفة بطقسها الحار صيفاً، وتتراوح درجة الحرارة في هذه المدن بين 15 و10 في أدنى مستوياتها.