ضحايا العنف الأسري في العراق يخترن الصمت

26 يونيو 2024
نسبة النساء اللواتي يتعرضن للعنف في العراق مرتفعة (حسين فالح/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- النساء في العراق يواجهن عنفًا أسريًا متزايدًا، مع تردد كبير في الإبلاغ عن الحوادث خوفًا من الفضيحة الاجتماعية، وتعرض الطبيبات للتهديد عند محاولة مساعدة الضحايا.
- النساء ذوات الإعاقة في العراق يتعرضن لمخاطر مضاعفة من الاغتصاب والتحرش، مع قلة الإبلاغ عن هذه الجرائم بسبب الخوف من العار الاجتماعي وعدم القدرة على التواصل.
- التحديات القانونية والاجتماعية تعيق مكافحة العنف الأسري في العراق، حيث يوجد معارضة من بعض الأحزاب الإسلامية لقانون مناهضة العنف الأسري، وتوفر المادة 41 من قانون العقوبات "مظلة" للمعنفين.

تواجه النساء في العراق تحديات كثيرة في ظل ارتفاع نسبة العنف بحقهن، وخصوصاً من قبل أفراد عائلاتهن، من دون أن يتمكنّ من رفع الصوت بسبب تقاليد المجتمع.

أحالت الطبيبة في مستشفى اليرموك في بغداد، ابتهال حسن، الفتاة أ.ح. (17 عاماً)، إلى لجنة فحص ومعاينة طبية، بعد ثلاث زيارات متقاربة إلى المستشفى برفقة والدتها، وكانت قد تعرضت في واحدة منها لكسر في أحد الأضلاع، نتيجة ضرب تبين لاحقاً أنه كان على يد زوجها الذي يعمل شرطياً في أحد مخافر بغداد. وتقول حسن التي تعمل ضمن ردهة الطوارئ الخاصة بالنساء في المستشفى الواقع وسط بغداد، إن غالبية من يتعرضن للضرب على يد الزوج أو الأب أو الأخ، لا يرغبن بتقديم شكوى للشرطة، إلا بعد استحالة العلاج. وعادة ما تكون الأم سبباً في ذلك لاحتواء المشكلة. وتعرضت حسن للتهديد والشتائم من الزوج بعد معرفته بأنها أحيلت للجنة فحص الشرطة.
تضيف حسن في حديث لـ "العربي الجديد": "لو تم احتساب عدد حالات التعنيف الأسري للنساء في المجتمع العراقي، فستكون النتيجة صادمة للغاية، خصوصاً للحالات التي تستدعي الذهاب إلى المستشفى لتلقي العلاج". وتقول: "الزواج المبكر، وتعاطي الممنوعات، وقلة تعليم المُعتدي، كلها عوامل مشتركة لدى غالبية الحالات التي تصل إلى المستشفيات من جراء العنف".
وتتفاوت الحالات التي تصل إلى مستشفيات العراق بين الضرب المفضي لكسور ورضوض والإغماء مروراً بالحرق، وكلها أنواع من العنف اليومي تتعامل معها المستشفيات والشرطة العراقية في مختلف المدن. لكن العاصمة بغداد سجلت أعلى معدل لها للعام الخامس على التوالي.
إلا أن الأسوأ في ملف العنف الأسري يتجلى في النساء ذوات الإعاقة، وسجلت عمليات اغتصاب وتحرش واستغلال متنوعة بحق عدد غير قليل منهن خلال الفترات الماضية، في بلد تبلغ نسبة الأشخاص ذوي الإعاقة فيه من جراء الحروب والأزمات الداخلية والمشاكل الصحية أكثر من مليون و200 ألف، وفقاً لمسوحات سابقة كشفت عنها وزارة التخطيط العراقية. وقالت إن من بينهم ما لا يقل عن 580 ألف امرأة، بمعدل أعمار يبلغ ما بين 24 و38 عاماً للنساء ذوات الإعاقة. عام 2020، فجّرت فضيحة اغتصاب امرأة تعاني من إعاقة بصرية في مدينة كركوك 250 كيلومتراً شمالي بغداد، على يد عنصرين مسلحين ينتميان إلى الحشد الشعبي، أزمة أخلاقية كبيرة استدعت الحكومة العراقية للإعلان عن فتح تحقيق، فيما نددت حكومة إقليم كردستان بالجريمة التي اعتبرتها مقززة وطالبت بغداد بموقف من الجريمة كون الضحية من القومية الكردية.
إلا أن حالات الاعتداء على ذوات الإعاقة لم تنته، وسجلت بغداد حالة اغتصاب لفتاة مصابة بمتلازمة داون على يد أحد أقرباء والدتها، وتم الكشف عن الجريمة بعد أيام من قبل الوالدة، واعتقلت الشرطة المجرم بعد سلسلة تحقيقات أفضت إلى إصدار حكم قضائي ضده.

في هذا السياق، تقول الناشطة الحقوقية، سفانة علي، لـ "العربي الجديد"، إن حالات الاعتداء داخل الأسرة على النساء ذوات الإعاقة تتصاعد، وعادة ما تكون الضحايا غير قادرات على إيصال أصواتهن، لأن العائلة تخشى الفضيحة في ظل مجتمع معروف بالميل إلى التستر على مثل هذه الأفعال. تضيف أن "من تصل حالاتهن إلى الشرطة أو المنظمات المعنية أقل بكثير من الواقع. رصدنا حالات قتل نساء سجلت على أنها حالات انتحار أو حادث عرضي، كما حدث شرقي بغداد في يناير/ كانون الثاني الماضي. وقد سجلت الوفاة نتيجة صعق بالكهرباء، لكنها في الواقع صُعِقت من قبل شقيقها الأصغر منها سنا. كما سجلت حالة قتل زوجة على يد زوجها في أربيل في إقليم كردستان خنقاً، وزعم أنها انتحرت نتيجة حالة نفسية".
وترى علي أن الحل الوحيد لمواجهة حالات العنف المتصاعدة هو "زيادة ثقافة المجتمع، ومنح المرأة تسهيلات أكثر لناحية الإبلاغ عما يتعرضن له، وإنشاء قاعدة بيانات للجرائم، وقبل كل شيء فضح المجرمين والكشف عن أسمائهم، إذ إن السلطات الحالية تحجب معلومات عن المتحرشين والمغتصبين وحتى المتورطين في جرائم قتل النساء". وتؤكد أن النساء اللواتي يعانين من متلازمة داون، الأكثر تعرضاً للعنف بسبب حالاتهن الخاصة وعدم الإدراك الكامل والطيبة المفرطة التي يتمتعن بها، من خلال ثقتهن بالجميع.

العراق (أحمد الربيعي/ فرانس برس)
سجلت قرابة 14 ألف دعوى عنف أسري خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري (أحمد الربيعي/ فرانس برس)

وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، أعلنت منظمة "حقوق المرأة العراقية" أن رجلاً من مدينة الديوانية، مركز محافظة القادسية جنوبي البلاد، أقدم على قتل ابنته بعدما نشرت مقطعاً ظهرت فيه على تطبيق "تيك توك". ويقول المُقدم بوزارة الداخلية العراقية أحمد السوداني، إن "الزوجة والأخت والابنة هن الأكثر تعرضاً للضرر داخل الأسرة أو المجتمع عموماً، لكن الحالات الأخيرة باتت تطاول الأم حيث نرصد ارتفاعاً بذلك". يضيف أنهم يتعاملون يومياً مع حالات العنف ضد النساء، "وما يصلنا نحن الشرطة أقل بكثير من الحالات التي تحصل بالمنزل وتنتهي من دون الإبلاغ عنها".
لكن مسؤولاً آخر في الوزارة طلب عدم الكشف عن هويته، يكشف عن مقتل 29 امرأة في مختلف مدن العراق منذ مطلع هذا العام نتيجة العنف الأسري، وكان آخرها في شهر يونيو/ حزيران الحالي. وقتل شقيق شقيقته وسط الشارع بعد معرفته أنها تعمل نادلة في مقهى. ويؤكد في حديث لـ "العربي الجديد" أنه "لأسباب اجتماعية، الضحايا من النساء لا يحصلن على فرصة لإظهار أصواتهن، كون الجاني إما الأخ أو الأب أو الزوج، وتتعدى في بعض الأحيان إلى أبناء العم".
وخلال شهر مايو/ أيار الماضي، كشفت وزارة الداخلية العراقية تسجيل قرابة 14 ألف دعوى عنف أسري خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري في عموم مدن البلاد. وبحسب المتحدث باسم الوزارة العميد مقداد ميري، فإن "الاعتداء البدني كان الأعلى نسبة بين هذه الدعاوى، وبمعدل 2700 حالة عنف أسري شهرياً، وأكثر من 90 حالة باليوم الواحد. وتُشكل حالات العنف ضد الإناث وفقاً لأرقام وزارة الداخلية 73% من مجموع تلك الحالات.

العراق (حيدر إندهار/ فرانس برس)
سجل العام الماضي في بغداد 18 ألفاً و436 حالة عنف (حيدر إندهار/ فرانس برس)

في المقابل، فقد سجل العام الماضي، وفقاً لمجلس القضاء الأعلى في بغداد، 18 ألفاً و436 حالة عنف، وهو ما يعني أن ارتفاعاً جديداً سيشهده هذا العام بحالات العنف الأسري. وتتصدر بغداد والنجف والبصرة وبابل وديالى المحافظات العراقية في حالات العنف ضد النساء.
وتنشر وزارة الداخلية عبر منصاتها على وسائل التواصل الاجتماعي، جانباً من جهودها في التوعية والتحذير من جرائم العنف الأسري، كما تنشر قصصاً لجرائم وانتهاكات تقول إنها اتخذت إجراءات حازمة بشأنها. ويؤكد مدير عام الشرطة المجتمعية بوزارة الداخلية العراقية، العميد غالب العطية، تسجيل "حالات لا إنسانية في العنف الموجهة ضد ذوات الإعاقة. لكنها بطبيعة الحال تبقى أقل بكثير من العنف الذي يتم تسجيله بين اللواتي لا يعانين من إعاقة". ويرى في حديث لـ "العربي الجديد" أن "الأسباب التي تؤدي إلى تعنيف النساء من ذوات الإعاقة، لا تختلف كثيراً عن الأسباب التي تدفع إلى العنف مع غير هذه الشريحة وأبرزها الفقر والبطالة وتعاطي المخدرات".

العراق (سافين حامد/ فرانس برس)
تعارض أحزاب إسلامية نافذة في العراق قانون "مناهضة العنف الأسري" (سافين حامد/ فرانس برس)

نصت المادة 41 من قانون العقوبات العراقي لعام 1969، على حق الزوج والآباء في "التأديب في حدود الشرع والقانون"، وهي عبارة واسعة التفسيرات، وفقاً لعضو نقابة المحامين العراقية قاسم العبودي، الذي أشار إلى أن العنف غير المرئي للنساء أكثر بأضعاف مما تم الإعلان عنه. ويرى العبودي أن هذه المادة القانونية تحولت إلى مظلة يفلت من تحتها الكثير من المعنفين، حتى لو وصلت الشكوى إلى الشرطة والقضاء. كما أن العراق عموماً يفتقر لأي دار أو ملاذ حكومي يؤوي النساء المعنفات.
وتعارض أحزاب إسلامية نافذة في العراق قانون "مناهضة العنف الأسري"، الذي قدمه عدد من نواب البرلمان قبل سنوات ودعمته منظمات حقوقية مختلفة، بغية التصويت عليه تحت مزاعم أنه "مستنسخ من قوانين غربية يشجع فيها المرأة على التمرد"، وفقاً لتصريحات سابقة أدلى بها عدد من النواب عن تلك القوى.
وأقرّ مجلس الوزراء العراقي في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، تحت ضغط الناشطين والمنظمات الحقوقية، مشروع قانون "مناهضة العنف الأسري"، ومرّره إلى البرلمان، لكن القانون لم يشرّع حتى الآن أبرز هذه الأحزاب التي تعارض قانون مناهضة العنف الأسري، وهو حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الإسلامي الأعلى وأجنحة سياسية مرتبطة بفصائل مسلحة. وهذا القانون، كونه يحتوي على بنود تتضمن بناء مراكز ودور إيواء للنساء اللواتي يتعرضن للتعنيف في أسرهن، وتمكينهن مادياً ومنحهن حق التعليم والعمل، وهو ما تعتبر تلك القوى أنه "سيؤدي إلى حدوث تفكك أسري"، بوصفه استنساخاً لقوانين غربية.
ويقول عضو حزب الدعوة الإسلامية في محافظة بابل، علي المالكي، لـ "العربي الجديد"، إن سبب معارضتهم القانون هو وجود بنود تحرض المرأة على زوجها أو والدها، من خلال تأسيس دور خاصة بهن، ومنحهن إعانات مالية لمن يعتبرونهن معنفات، ما يمثل مساعدة لهن على التمرد وإنهاء القوامة والإدارة للرجل في منزله"، وفقاً لوصفه. يتابع: "القانون المعمول به في الغرب لا يمكن تطبيقه في المجتمع العربي والإسلامي المحافظ".

عضوة لجنة المرأة والأسرة في البرلمان العراقي، ابتسام الهلالي، قالت في تصريحات سابقة أدلت بها لصحيفة "الصباح"، شبه الرسمية، إن "قانون العنف الأسري لم يشرّع منذ ثلاث دورات برلمانية، بسبب الكثير من الملاحظات والتعديلات، فضلا عن عدم اتفاق بين الكتل والمذاهب بشأن فقراته". وفي العشرين من أكتوبر العام الماضي، أعلنت وزارة الصحة العراقية، عن توجهها لافتتاح ردهات خاصة داخل المستشفيات الحكومية، لرعاية النساء المعنفات والأطفال، في خطوة تهدف إلى تقديم الدعم الطبي والنفسي لحالات العنف الأسري المتزايدة في البلاد. وقال مدير عام صحة الكرخ ببغداد، سعد اللامي، إن "الردهات ستكون مخصصة لاستقبال جميع حالات العنف الأسري ضد النساء والأطفال والأحداث، فضلاً عن رعاية الحالات التي تحتاج إلى دعم نفسي، لتأمين الرعاية الكاملة للمرأة والحفاظ على خصوصيتها، ورعاية أطفالها"، مشيراً إلى أن بغداد ستكون خطوة أولية ستعمم بعدها التجربة عن طريق افتتاح ردهات أخرى للنساء المعنفات في عموم العراق.
ويؤكد النائب المستقل في البرلمان العراقي باسم خشان، لـ "العربي الجديد"، أن "الأحزاب الإسلامية التي تعارض القانون تريد أن تضع العراق تحت بنود الأحكام الشرعية والعرفية. لذا يتم ترحيله لأكثر من مرة حتى إشعار آخر، حتى بات قانون مناهضة العنف الأسري في عداد القوانين المرحلة إلى المجهول".
خالدة فاضل المولى التي فقدت ابنتها صيف عام 2022، بعدما أقدمت على الانتحار في غرفتها نتيجة مشاكل زوجية متكررة مع زوجها وشقيق زوجها، وصلت إلى حد حلاقة شعر رأسها مع الضرب. وتقول لـ "العربي الجديد" إنها تتمنى لو أنها لم تتجاهل رسائل واتصالات ابنتها وأنها قامت بـ "سحبها منه". وترى المولى أن ما حدث لابنتها ويحدث لنساء أخريات من تعنيف "إرهاب"، يجب أن يتوقف والبداية تكون بإفصاح النساء المُعنفات عن الذين يمارسون الأذية تجاههن.

المساهمون