ما إن تهلّ بشائر الربيع وتتفتّح الأزهار، يتسابق الأطفال في الحقول بحثاً عن عشبة الحمّيضة التي تجذبهم بوردها الأصفر وطعمها الحامض، ويتنافسون لجمع أكبر قدر ممكن منها، ويلي ذلك التنافس أيضاً على أكلها مع الملح أو الكمّون.
الحمّيضة أو الحمّاض، عشبة يحنّ إليها الكبار فيبحثون عنها مع أطفالهم في المساحات الخضراء، لا سيما في المدن التي غزتها الكتل الإسمنتية، إذ تذكّرهم بطفولتهم ويعرّفون أطفالهم على هذه النبتة الأنيقة الشكل.
تقول نور قصاب إنّها تقطف الحميضة مع طفلتها ناي من حقل مجاور لمنزلها في مدينة صيدا (جنوب لبنان). وتقول إن "الحمّيضة جزء من طفولتي حين كنا نركض ونتسابق نحو بستان أو حقل قريب من بيتنا المجاور للقلعة البرية في صيدا، لنقطفها ونأكلها مع الملح أو الكمّون. أما اليوم، وبسبب الكثافة العمرانية، لم يعد هناك الكثير من البساتين والحقول، وبتنا نبحث عن أية مساحة خضراء أو أي حقل أو بستان كي يتعرّف أطفالنا إلى الحمّيضة ليستمتعوا بطفولتهم. نحن أيضاً نستعيد تلك الذكريات وطفولتنا معهم".
من جهة أخرى، يلفت المهندس الزراعي غيث معلوف إلى أن "عشبة الحميضة (الاسم العلمي هو OXALIS)، هي نبتة معمّرة لنحو سنة تقريباً، وتمتد فترة تفتحها نحو شهرين، وتحديداً ما بين شهري مارس/ آذار ويونيو/ حزيران، وهي نبتة متجددة بمعنى أنها تتجدد كل عام من خلال جذورها وتتكاثر من خلال بذورها.
لكن البعض يعتبر أن هذه النبتة هي عشبة بريّة، فيزيلونها من حقولهم. وتكمن أهميتها في أنها تلفت أنظار الأطفال بلونها الأصفر الجذاب وطولها (أكثر من 30 سنتيمتراً)، بالإضافة إلى نكهتها وطعم الحموضة فيها، ويميّزها حامض الأوكزاليك الموجود فيها. وهذه النكهة تجعل الأطفال متحمسين ومشدودين لقطافها وجمعها في هذه الفترة من كل سنة".
يضيف أنها صالحة للأكل بمعظم أجزائها من أغصانها وجذورها إلى أوراقها ووردها الأصفر، مشيراً في الوقت نفسه إلى "وجوب عدم الإكثار من تناولها، ذلك أن حامض الأوكزاليك الموجود فيها يمكن أن يؤدي إلى مشاكل صحية، خصوصاً وأنه مركّز بأوراق الحمّيضة بشكل كبير. إلا أن طهوها يقلّل من حدّة الحامض الموجود فيها، لأنه يمنع امتصاص الكالسيوم في الجسم. كما تؤدي إلى مشاكل لمن يعاني من وجود حصى في الكلى. لذلك، يفضّل تجنب تناولها بكميات كبيرة".
يضيف معلوف: "كان بعض الناس يعتبرونها مجرد عشبة، باستثناء الأطفال الذين يحبون زهرها الأصفر وشكله، وأوراقها المميزة جداً التي تتّخذ شكل القلب، وزهرها وأوراقها تتفتح نهاراً لتتغذى من الشمس وتنغلق على نفسها ليلاً، وهذا ما يزيد من جمالها. والحميضة ما زالت موجودة بشكل مقبول في بعض الحقول، لا سيما بساتين الزيتون والحمضيات، إذ تنتقل بذورها مع سماد الأبقار والماشية. وفي أماكن أخرى، أصبحت هذه العشبة تقل بنسبة كبيرة".
ويشير معلوف إلى أن "هذه العشبة أو النبتة موجودة وتنمو في مختلف بلدان الشرق الأوسط. وتؤكد دراسات أن هذه العشبة تنمو من دون أزهار في بعض بلدان أوروبا بسبب طول النهار وبرودة الطقس في فصل الشتاء. إلّا أنها تزهر في منطقة شرق المتوسط ومعظم بلدان أفريقيا وآسيا".
يتابع معلوف أنه تعرّف عليها في بساتين الحمضيات على الساحل اللبناني، حيث تنتشر بكثرة. ويقول: "أكثر ما أحببته في هذه العشبة هو شكلها وطعمها الحامض. في كل مرة أراها بأي حقل أقطفها وأتناولها مع الملح، وقد عرّفت أولادي عليها منذ طفولتهم وهم يحبونها كثيراً. وأنصح الجميع بتذوقها والاستمتاع بنكهتها".
مهما قيل عن الحمّيضة ذات الزهرة الصفراء والممشوقة القوام، تبقى لكلمات الأطفال عنها وقع خاص. هؤلاء يتحدثون عنها بعفوية وبراءة كما هو حال كل من لمار وحبيبة وسيرين وأحمد وراني وجيجي وناي الذين جمعتهم الحمّيضة في يوم ربيعي مشمس، وراحوا يتنافسون في جمع أكبر كمية منها وتلك الأكثر طولاً. يتحدث كل منهم عن طريقة أكلها مع الملح أو الكمون أو الإثنين معاً، فيدور حوار بين لمار وحبيبة وسيرين. تقول الأولى: "هيدي (هذه) كتير طيبة (لذيذة) وطويلة"، فترد عليها حبيبة: "الحمّيضة كتير كتير طيبة". أما سيرين، فتشرح عن الحمّيضة قائلة إنها "تنمو في فصل الربيع ونحبّها كثيراً. في ناس تأكلها مع الملح وغيرهم مع الكمون وتعلوها وردة".