علاجات سورية... مواطنون يلجأون إلى الصيادلة للتداوي

11 فبراير 2021
استشارة بديلة (سيباستيان باكهاوس/ Getty)
+ الخط -

كثيرون هم الذين يلجأون إلى الصيدلاني كبديل عن الطبيب، بهدف التداوي والحصول على الدواء المناسب. هذه هي الحال في سورية، ويعود ذلك إلى أسباب تختلف طبيعتها

أمام إحدى الصيدليات في منطقة شعبية جنوبي دمشق، تجمّع عدد من الأشخاص ينتظرون أدوارهم حتى يعرضوا مشكلاتهم على الصيدلاني الخمسيني. أحدهم أحضر ابنته الصغير شاكياً من أنّها تعاني آلاماً في البطن وفي الرأس والحلق. فراح الصيدلاني يستشعر حرارتها بيده، قبل أن يتناول خافض لسان من جيب مريوله الأبيض ويحاول فحص بلعومها. وما إن انتهى، حتى توجّه إلى رفوف الأدوية وأحضر ثلاث علب راح يسجل عليها الجرعات المطلوبة، قبل أن يلتفت إلى آخرين قصدوه لغايات مشابهة. ولا يُعَدّ هذا المشهد غريباً في سورية، إذ يتكرّر في مناطق كثيرة في البلاد.

صحة
التحديثات الحية

ولجوء السوريين إلى الصيادلة للتداوي يعود إلى ما قبل عام 2011 وانهيار القطاع الصحي. وتخبر أم راجي العبد، ربّة أسرة وأمّ لأربعة أبناء، أنّه "منذ سنوات طويلة أقصد الصيدلاني ليصف العلاج لي ولأفراد أسرتي". بالنسبة إليها، "ثمّة صيادلة أشطر من الأطباء في وصف الدواء، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالأمراض الموسمية مثل الإنفلونزا واضطرابات الجهاز الهضمي في الشتاء، بالإضافة إلى أمراض أخرى مثل التهاب الرئتين والتهاب العين والأذن وغيرها. وفي بعض الأحيان، قد يحوّلني هو إلى طبيب مختصّ، فأنا وعائلتي وكثيرون من أهالي الحي نثق به وبآخر في منطقتنا". تضيف أم راجي أنّ "الصيدلاني يصحح في أحيان كثيرة وصفة الطبيب ويعطيني بدائل أكثر فاعلية. فهو أعلم بالأدوية وفاعلية تركيباتها". وتلفت إلى أنّ "أمراضاً كثيرة ليست في حاجة إلى طبيب، فعلاجها معروف، مع الإشارة إلى أنّ زيارة عيادة الطبيب اليوم صارت مكلفة. وبما يتقاضاه الطبيب من بدل، في إمكاني شراء الدواء الذي ارتفعت أسعاره بشكل كبير في السنوات الأخيرة".

صيدلية وأدوية في سورية (أنور عمرو/ فرانس برس)

لكنّ مرضى كثيرين يتعرّضون لمخاطر قد تصل إلى درجة تهديد حياتهم، من جرّاء تجاوزات ارتكبها صيادلة عبر وصفهم أدوية في حاجة إلى مراقبة طبية، كما هي حال أم جمال. وتقول لـ"العربي الجديد"، متحفّظة على الإفصاح عن هويتها بالكامل، "تعرّضت للإجهاض من جرّاء تناولي دواء خاص بمرض صدري وصفه لي صيدلاني. فقد حدث نزيف شديد نُقلت على إثره إلى المستشفى، وقد أعلمتنا الطبيبة هناك أنّ حياتي كانت ستكون في خطر لو تأخّرت ربع ساعة إضافية". وليست أم جمال حالة استثنائية، فقبل أيام كادت أم رمزي رستم تفقد حياتها، بحسب ما يخبر ابنها "العربي الجديد"، من جرّاء "قيام صيدلاني بوصف دواء لها من دون أن يعلم أنّها تعاني من أمراض عدّة كنقص التروية في القلب والضغط والسكري. وقد أنقذتها زيارة طبيبة لها بالصدفة، إذ أخبرتنا أنّ هذا الدواء قاتل بالنسبة إليها".

علاقة متشابكة
وتتشابك العلاقة ما بين المريض والصيدلاني والطبيب بطريقة معقدة، إلى حد كبير، بحسب ما يلفت الصيدلاني خالد أبو عمر لـ"العربي الجديد". ويقول إنّ "المشكلة تكمن في أنّ الوعي الطبي في المجتمع بشكل عام ليس بالمستوى المطلوب. وكثيرون يشخّصون أمراضهم ويصفون الدواء لأنفسهم، استناداً إلى تجارب مسبقة أو أخرى نقلها إليهم آخرون. وهذا أمر واضح في ما يتعلق بأمراض الأطفال، إذ تجد لدى غالبية العائلات السورية مجموعة من الأدوية، منها خافض حرارة ودواء للمغص وآخر للزكام، وغيرها من الأمراض المعروفة لدى تلك الفئة العمرية".
يضيف أبو عمر أنّ "الأمر ينطبق كذلك على أمراض معيّنة تنتشر بين البالغين. فتجد الناس يقصدون الصيدلية ويطلبون دواء لوجع الرأس أو البطن أو الصدر، وهي تكون إمّا أدوية سبق أن استخدموها في علاج أعراض مشابهة، وإمّا أخرى يطلبون من الصيدلي أن يصفها لهم بحسب معرفته. ومن المتعارف عليه مجتمعياً أنّ للصيدلي القدرة على وصف دواء مناسب، وقد يعود ذلك إلى التأثر بثقافة العطارين الذين ما زالوا ينشطون في مختلف المناطق السورية والذين يصفون كذلك علاجات لأمراض مزمنة". ويوضح أنّه "في النهاية، إذا نصحت المريض بمراجعة طبيب يزوّده بوصفة طبية مناسبة لحالته، فإنّه سيتوجه إلى صيدلاني آخر يعطيه ما يشاء، إذ إنّ الأعراض التي يعانيها لا تستدعي مراجعة طبيب".

ويتابع أبو عمر أنّ "التعويل يكون على خبرة الصيدلاني في وصف أدوية آمنة للمرضى، وأن يكون قادراً على تجنّب الاختلاطات الدوائية، إذ يُخشى من أن يعاني الشخص المعني أمراضاً أو أوضاعاً صحية، فتتسبب له أدوية محددة في مضاعفات جانبية، منها ما قد يكون خطيراً". ويتحدّث عن "خطأ شائع ذي مخاطر كبيرة، لكنّه ما زال حتى اليوم مهملاً طبياً ورقابياً، وهو وصف المضادات الحيوية عشوائياً. فثمّة أشخاص يتناولون تلك المضادات بمجرّد شعورهم ببعض الزكام أو لسبب آخر، من دون أن تكون ثمّة ضرورة طبية لذلك. وهذا الأمر يعرّض المريض إلى انتكاسات، ما يضطره إلى اللجوء إلى أدوية أقوى في مراحل مقبلة، فتتأثّر مناعته سلباً".

أسباب مادية
والسوريون يركّزون غالباً على الجانب المادي في هذا المجال، في ظل تردي أوضاعهم المعيشية. تقول كوثر حسن، من الحسكة في شمال شرق سورية الخاضعة لسيطرة "قسد" (قوات سورية الديمقراطية)، إنّه "بدلاً من مراجعة طبيب وتحمّل تكاليف المعاينة التي تصل إلى نحو سبعة آلاف ليرة سورية (نحو 15 دولاراً أميركياً)، يمكننا بالمبلغ نفسه تأمين ما نحتاجه من دواء من الصيدلية".

صيدلية في عفرين في سورية (بهاء الحلبي/ الأناضول)

وكما هي الحال في مناطق أخرى، بنى كثيرون من أهالي منطقة حسن ثقة عالية في صيادلة بحدّ ذاتهم. وتوضح كوثر أنّ "ثمّة صيادلة معروفين في المنطقة يستطيعون تقديم العلاج ذاته الذي قد يصفه الطبيب"، مضيفة أنّ "المشكلة تكمن في أنّ ثمّة من يعملون في الصيدليات من دون أن يملكوا خبرة. فهم يكونون في الغالب قد استأجروا شهادات صيادلة للحصول على تصاريح فتح صيدليات. وتكون خبرتهم فقط في أسماء الأدوية وليس أكثر، لكنّ منهم من لا يكتفي ببيع الدواء، بل يقوم بالنصح به وبيعه من دون وصفة طبية. وأظنّ أنّ الخطر الحقيقي يكمن هنا، والناس غير قادرين على معرفة من يمتلك شهادة ومن لا يمتلك... هذا دور الجهات الرقابية".
من جهته، يوضح الصيدلاني صلاح رمو في مدينة القامشلي لـ"العربي الجديد" أنّه "بداية، النظام الصحي في سورية وشمال شرق سورية ينطوي على أخطاء في الواقع، على الرغم من أنّ ثمّة قوانين كثيرة ضابطة للعملية على الورق. فجزء من تلك القوانين معطل". ويرى أنّ "معالجة الصيدلاني للمريض خطأ كبير، باستثناء أمراض بسيطة مثل الزكام التي لا تتسبّب أدويتها في أعراض جانبية. أمّا تلك التي تأتي بآثار جانبية، فلا بدّ من أن تكون بوصفة طبية، وقطعاً لا يجوز استخدامها في غير ذلك. فالمعالجة يجب أن تكون مستندة إلى وصفة طبيب في ما يتعلق بأمراض كثيرة، مثل تلك الخاصة بالكلى أو الأمعاء وغيرها من أمراض مزمنة، فهي ليست من اختصاص الصيدلاني".
ويلفت رمو إلى أنّ "أبرز الأسباب التي تدفع المريض إلى التوجه إلى الصيدلاني هو تردّي الوضع الاقتصادي، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأمراض مزمنة"، مضيفاً أنّه "لا بدّ للصيدلاني من أن يلتزم بالوصفة الطبية، فلا يعمد إلى تغيير دواء ما من دون استشارة الطبيب المعالج، وهذا بحسب القانون". ويشدد على أنّه "يبقى للصيدلي دور مهم جداً وهو توعية المريض بطريقة استخدام الأدوية، إذ إنّ المرضى بغالبيتهم يستخدمونها بشكل خاطئ، ما يؤثّر على الاستجابة للعلاج".

قلّة وعي وثقة
والتداوي لدى الصيادلة أمر يتشاركه شمال غرب سورية، الخاضع لسيطرة الفصائل المسلحة المعارضة المدعومة من تركيا، مع مختلف مناطق البلاد. لكنّ الأمر تفاقم خلال السنوات الماضية، نظراً إلى ما تعرّضت له المنطقة من أعمال عسكرية، وانهيار لمؤسسات الدولة وبناء أخرى بديلة لم تضطلع دورها بشكل كامل بعد. ويأتي ذلك في حين يعاني القطاع الصحي تردياً في الخدمات الطبية، ونقصاً في الكادر الطبي، وعدم توفر خدمات طبية في كل المناطق السكنية، ما جعل بعض الأشخاص يعمدون إلى بيع الدواء من دون امتلاكم رخصة أو من دون أن يكونوا مؤهّلين علمياً لذلك.
ويقول مسؤول الرقابة الدوائية والصحة الأولية في مديرية صحة ريف حلب الغربي، الدكتور حسام العلي، لـ"العربي الجديد"، إنّه "بالنسبة إلى الأمراض المزمنة، قد تكون الوصفة معروفة ومكررة، أمّا بالنسبة إلى الأمراض الأخرى مثل التهابات الجهاز التنفسي أو البولي أو التهاب الأمعاء أو الحالات الإسعافية فلها أسباب عدّة بالتالي علاجات مختلفة". ويرى أنّ "لجوء المرضى إلى الصيادلة يعود إلى عدم وجود أطباء في المنطقة أو قلّتهم. وفي حال وجودهم، تُسجَّل أحياناً قلة ثقة بالطبيب. ونجد كذلك قلة وعي من قبل الأهل، بالإضافة إلى شحّ الأدوية في المنشآت الصحية، وكلّ ذلك يدفع الناس إلى التوجّه إلى الصيادلة".
ويلفت العلي إلى مشكلة هي "لجوء عدد من الصيادلة إلى تزويد الناس بالمضادات الحيوية القوية والكورتيزون التي توصف عادة لتأمين شفاء أسرع. لكنّ أضرار ذلك أكبر، إذ تسمح بظهور سلالات بكتيرية مقاومة". يضيف أنّ "الصيدلاني قد يكون قادراً على اتخاذ قرار بشكل بسيط، لكن ما يُخشى منه هو أن يغلب الطابع الربحي"، متابعاً أنّ "الذين يعملون في الصيدليات ليسوا جميعهم مختصّين، على الرغم من محاولات الجهات المسؤولة التأكد من الأمر. وقد يعود ذلك إلى واقع أنّ ثمّة من هو مدعوم في بعض المناطق بالعلاقات العشائرية والفصائل المسلحة".

وتبقى ثمّة مناطق تفرض على سكانها التداوي لدى غير المختصين، كما هي الحال في مخيّم الركبان الواقع على الحدود السورية الأردنية في عمق بادية حمص، والذي يعيش فيه أكثر من عشرة آلاف شخص لا يوجد بينهم أيّ طبيب أو ممرض. هكذا، يعتمد أهالي المخيم على ما يقدّمه بعض الذين اكتسبوا خبرة طبية من جراء الممارسة لجهة وصف أنواع الأدوية المهرّبة إلى المخيم المحاصر. أمّا من يحتاج إلى عملية جراحية أو ولادة قيصرية، فعليه التوجّه إلى مناطق النظام بعدما أغلق الأردن حدوده في وجههم قبل أشهر طويلة بحجة الإجراءات الوقائية في مواجهة فيروس كورونا.

المساهمون