في النصف الأوّل من مارس/ آذار الماضي، شهد الأردن عدداً من الجرائم العائلية. طعن ابن والدته الستينية بالسكين، وأطلق أب النار على رأس ابنه العشريني، وطعن رجل طليقته الخمسينية في المحكمة في قلبها بعدما رفعت عليه قضية حضانة، وطعنت أم ابنتها العشرينية، وذبح أب لستة أطفال طفلتيه (عامان وثلاثة أعوام) بأداة حادة، وكان ينوي ذبحهم جميعاً.
خلال فترة تفشّي كورونا وفرض الإغلاق الشامل في البلاد، ارتفعت نسبة جرائم العنف الأسري. وبحسب إدارة حماية الأسرة، فقد ارتفعت نسبة العنف الأسري خلال فترة الحجر الصحي 33 في المائة بالمقارنة مع فترة ما قبل الحجر.
في هذا السياق، تقول أستاذة علم الجريمة خولة الحسن، لـ "العربي الجديد": "يشكل عدد الجرائم العائلية المتزايد في المجتمع الأردني خلال الآونة الأخيرة مصدر قلق، ويتطلب وقفة من الجهات المعنية لدراسة الأسباب والحلول بطريقة علمية، والوصول إلى الضحايا المحتملين قبل وقوع ما لا تحمد عقباه".
توضح أن الخلافات العائلية هي الدافع خلف معظم هذه الجرائم التي وقعت خلال وقت قصير نسبياً، ولا يفصل بينها إلا يوم أو أيام عدة. والسؤال هو: "هل أصبح القتل الوسيلة الوحيدة لحل الخلافات العائلية؟ وهل أصبح المكان الأكثر أماناً واستقراراً هو الأكثر تهديداً لحياة من يعيشون فيه مع أقرب الناس إليهم؟ وهل بات سماع أخبار جرائم القتل مقبولاً، أم أن القتل نفسه أصبح سلوكاً اعتيادياً؟".
وتعرّف الحسن الجرائم العائلية بـ"تلك التي تقع على فرد من الأسرة من قبل أحد أفرادها"، لافتةً إلى وجود أسباب عدة تقف وراء ارتكاب الجرائم العائلية، وأهمها الخلل الواضح في منظومة العلاقات العائلية والذي يتجسّد في التفكك الأسري. ويكثر العنف الجسدي واللفظي والنفسي من جراء انعدام لغة الحوار بين أفراد العائلة، وغياب التسامح، وعدم تقبل وجهات النظر المختلفة، والتشدد بالآراء، وفرض القوة أو التهديد بها، والتخلي عن الدور الأساسي المنوط بالأسرة من تربية ورعاية وحماية، وغرس للقيم الفضلى في نفوس الأبناء، وعدم الاحتواء.
كذلك، تتحدث عن أسباب أخرى، منها العقوبات غير الرادعة، والعذر المخفف، وطول فترة التقاضي لينسى المجتمع الجريمة ولا يعود يذكرها، وعدم وجود جهات رسمية يمكن اللجوء إليها لحل الخلافات العائلية قبل اشتعالها. تضيف أن "مراكز الاستشارات الأسرية ليست ثقافة سائدة في مجتمعنا، ناهيك عن أن كلفة الاستشارات العائلية مرتفعة".
ولا تنسى الحسن الإشارة إلى العوامل الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية التي يمكن أن تساهم في ارتفاع نسبة العنف الأسري، منها الإدمان على المخدرات، ومجاراة رفاق السوء، والبطالة، والوضع الاقتصادي المتردي، وانتشار الأسلحة، فضلاً عن الضغوط النفسية بشكل عام. وتقول: "يمكن تفسير ارتفاع معدلات الجرائم الأسرية مؤخراً في المجتمع الأردني من خلال فهم الضغوط الناتجة عن جائحة كورونا والتي فرضت الإغلاق العام والحجر المنزلي والعزلة والتباعد الاجتماعي ومكوث جميع أفراد العائلة في المنزل. وفي الوقت نفسه، يعاني الجميع من القلق والتوتر والإحباط واليأس وعدم اليقين والخوف من المجهول، بالإضافة إلى فقدان الوظائف والعمل عن بعد والتعليم عن بعد. كل ما سبق أدى إلى زيادة التوترات بين أفراد العائلة الواحدة، وعدم القدرة على تحمل المزيد من الأعباء النفسية والاجتماعية والاقتصادية. فلا الأم المعتادة على احتواء الجميع قادرة على القيام بواجباتها داخل المنزل على أكمل وجه، ولا الأب قادر على الالتزام بكافة متطلبات الأسرة، ولا الأبناء قادرون على التكيف والتأقلم مع الظروف المعيشية الصعبة، حيث أصبح المنزل مكاناً للعمل، ومدرسة للتلاميذ والطلاب الذين يدرسون عن بعد، ومستشفى لرعاية المصابين من أفراد العائلة، الأمر الذي ينذر بوقوع المزيد من الجرائم العائلية من جراء هذا الوضع الاستثنائي الضاغط غير المسبوق".
وتقول الحسن إنّ "معظم حالات العنف العائلي لا يتم الإبلاغ عنها وتبقى حبيسة جدران المنزل، إما لانعدام الثقة بالجهات الرسمية وقدرتها على حماية الضحية المعنفة، أو لعدم المعرفة بآليات التبليغ عند التعرض للعنف العائلي، أو بسبب الثقافة المجتمعية السائدة وتقبل المرأة أن تعنّف من قبل الرجل، بل والاعتقاد بأنها تستحق هذا العنف لذنب ما قد ارتكبته، وقبولها الاستمرار بحلقة العنف هذه، أو لعدم وجود مصدر دخل يؤمن للفرد العيش الكريم، أو الخوف من الوصمة الاجتماعية، أو بسبب السلطة الذكورية المجتمعية التي تمنح الرجل أو (رب الأسرة) الحق في التحكم بمصير الأنثى ومستقبلها أو حتى إنهاء حياتها".
وترى الحسن أن "دوافع الجرائم العائلية تختلف باختلاف مرتكبيها ومستواهم العلمي ووضعهم الاجتماعي والاقتصادي وحالتهم النفسية. ولكل جريمة سياق خاص يجب دراسته لتحديد الدافع، وقد لا يفصح الجاني في مرحلة التحقيق والتقاضي عن الدافع الحقيقي لارتكاب الجريمة في حالة الجرائم العائلية تحديداً، وتبقى هذه الدوافع والأسباب طي الكتمان. كما يمكن اتباع المنهج الوقائي ومعرفة الضحايا المحتملين قبل وقوع الجريمة من خلال برامج حماية ومتابعة يتم تصميمها لهذه الغاية بالتنسيق ما بين الجهات المعنية الاجتماعية والصحية والتعليمية والقضائية وغيرها، وذلك في حال كان هناك إرادة حقيقية رسمية ومجتمعية للوقوف ضد ارتكاب المزيد من الجرائم العائلية والتصدي لها، وفرض جزاء عادل بحق مرتكبيها".
من جهته، يقول مستشار الطب الشرعي والخبير الجنائي في الطب الشرعي لدى المحكمة الجنائية الدولية، هاني جهشان: "لا يوجد في الأردن إحصائيات أو معلومات علمية وأبحاث موسعة ودقيقة حول العنف الأسري خلال فترة تفشي كورونا. لكن بحسب الأمم المتحدة، وخلال فترة الحجر الصحي، ارتفعت نسبة التبليغ عن العنف الأسري في فرنسا 30 في المائة، وزاد اللجوء إلى خطوط المساعدة الطارئة في كل من قبرص وسنغافورة بنسبة 30 في المائة و33 في المائة عن المعدلات اليومية. وفي الأرجنتين، زاد طلب المساعدة الطارئة بسبب العنف الأسري بنسبة 25 في المائة".
ويوضح جهشان: "هناك دور محوري للطب الشرعي في الجرائم التي تشهدها الأسرة. مهنياً، يتوجب على الطبيب الشرعي إثبات وقوع الجريمة وجمع الأدلة المادية وتنظيم التقارير الطبية القضائية، بهدف إثبات الضرر الذي لحق بالضحية، وهو عادة الطفل أو المرأة، وبالتالي معاقبة المعتدي جزائياً بتحديد نوع الجريمة". يضيف أن "تحديد الضرر من قبل الطبيب الشرعي يعد أحد الأركان الهامة لتوفير الحماية القانونية للطفل كنزع الحضانة أو إزالة الولاية أو التفريق بين الزوجين في المحكمة الشرعية، وتحديد الضرر المادي والمعنوي الذي لحق بالطفل أو المرأة".
يضيف جهشان أن الأدلة التي يصدرها الطبيب الشرعي تكون على شكل تقارير، أو صور فوتوغرافية، أو ملخص لملفات طبية، أو صور شعاعية، وهذه أدلة ملموسة بحد ذاتها أكثر من كونها شهادة كلامية، وتقدم للقاضي للوصول للحقيقة، وتتصف بقواعد تضمن أصالتها وأهميتها. وفي جرائم القتل الأسرية، يتولى الطبيب أيضاً تحديد الأداة المستخدمة بالقتل وطريقة استخدامها وما نتج عنها من إصابات، وتحديد وقت الوفاة، وتحديد المسؤولية في حال تعدد الجناة.
يضيف جهشان أنه لا يتم الإبلاغ سوى عن نسبة صغيرة من حالات العنف الأسري. كما أن عددا قليلا جداً من مرتكبي هذه الجرائم تتم محاسبتهم والتحقيق معهم. والسبب في ذلك هو عدم جديّة الحكومة في إيجاد نظم معيارية للتبليغ وتسجيل الحالات. ويوضح أن "مشروع نظام تتبع حالات العنف الأسري الإلكتروني الذي يربط القطاعات الصحية والقانونية والاجتماعية، ما زال متعثراً"، لافتاً إلى أن "عدد الحالات/ الجرائم التي يبلغ عنها ما هو إلا نسبة ضئيلة من الواقع، ولا يعكس حقيقية انتشار العنف ضد النساء في عموم المجتمع".
وحول أسباب زيادة العنف الأسري، يقول جهشان إن "جذور العنف الأسري قائمة على مجموعة من عوامل الخطورة، وهي فردية من مثل الإدمان والاضطرابات والأمراض النفسية واضطرابات الشخصية وغيرها، والخلل في العلاقات الأسرية والزوجية، والواقع المجتمعي حيث الفقر والبطالة والاكتظاظ السكاني، بالإضافة إلى الثقافة السائدة في المجتمع والتي تعظم العنف وترحب به، وتدني مكانة المرأة والطفل وعلو مكانة الرجل".
ويقول إنّ تفاقم العنف الأسري "يرتبط بفشل الدولة في التعامل مع عوامل الخطورة المذكورة، علماً أن بعض الجهات أعدت برامج على المستوى الوطني. وهذه البرامج للأسف غير مستدامة كونها قائمة على الدول والمؤسسات المانحة والتي تنتهي برامجها مع انتهاء الدعم المالي".
يضيف أن "الاستجابة لحالات العنف الأسري في زمن كورونا تتعثر بسبب انشغال القطاعات الصحية والاجتماعية والقانونية والأمنية بالوباء، وتعطى الأولوية لذلك في مقابل عدم الاهتمام من قبل هذه القطاعات بالاستجابة لحالات العنف الأسري، وقد يؤدي الانشغال بالوباء إلى فقدان السيطرة على التنسيق والتواصل والعمل التشاركي بين القطاعات الصحية والأمنية والاجتماعية، والذي هو الأساس لنجاح الاستجابة للعنف الأسري. بعض مقدمي الخدمات قد يفسر التباعد الاجتماعي خلال الاستجابة لكورونا على أنه الامتناع عن التواصل مطلقاً مع الآخرين بما في ذلك التباعد عن ضحايا العنف الأسري".
يضيف أن العنف الأسري واقع مؤلم وقد تفاقم خلال فترة تفشي الوباء، لافتاً إلى أن "الصمت الحكومي حيال هذا الواقع هو انتهاك صارخ لحقوق الإنسان والمرأة والطفل. لا يوجد مبرر إطلاقاً لارتكاب العنف، فلا الجائحة ولا الحجر ولا العزل هي مبررات لارتكاب أي شكل من أشكال العنف".