غاغارين في الفضاء... تدشين سوفييتي لعلاقة البشر بما حولهم

12 ابريل 2022
نفذ غاغارين دورة حول الأرض وعاد إليها بسلام (ديميتار ديلكوف/ فرانس برس)
+ الخط -

تحلّ الذكرى الـ61 لانطلاق رائد الفضاء السوفييتي يوري غاغارين في أول رحلة مأهولة إلى الفضاء في 12 إبريل/ نيسان 1961، على وقع أعمق أزمة في تاريخ العلاقات بين موسكو والغرب بسبب عملية الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا في 24 فيراير/ شباط الماضي، والتي تهدد تعاونهما في مجال الفضاء الذي ظل حتى الفترة الأخيرة خارج إطار الخلافات السياسية مع استمرار عمل رواد الفضاء الروس والأميركيين معاً على متن محطة الفضاء الدولية. 
وكان مدير وكالة الفضاء الروسية "روسكوزموس" ديمتري روغوزين صرح مطلع إبريل/ نيسان الجاري أن "استعادة العلاقات الطبيعية بين الشركاء في محطة الفضاء الدولية، وغيرها من المشاريع الفضائية المشتركة، لن تكون ممكنة إلا بعد رفع العقوبات التي فرضها الغرب على موسكو بعد غزو أوكرانيا. وكتب على موقع للتواصل الاجتماعي: "تهدف العقوبات إلى قتل الاقتصاد الروسي، وإغراق شعبنا في اليأس والجوع، وإجبار بلدنا على الخضوع. النوايا واضحة لكنها لن تنجح".

"لننطلق"
صباح 12 إبريل/ نيسان 1961، أقلعت من مطار "بايكونور" الفضائي في جمهورية كازاخستان السوفييتية الاشتراكية مركبة "فوستوك 1" (الشرق 1)، وعلى متنها غاغارين البالغ 27 من العمر، بعدما نطق كلمته الشهيرة "لننطلق".
خلال الرحلة نفذ غاغارين دورة حول الأرض، ثم هبطت مركبته في مقاطعة ساراتوف جنوب جمهورية روسيا السوفييتية الاتحادية الاشتراكية، وعاد إلى الأرض بسلام. 
يوضح الكاتب والصحافي العلمي والباحث في تاريخ الملاحة الكونية أنطون بيرفوشين، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "رحلة غاغارين جاءت ثمرة عقود طويلة من البحوث العلمية وسلسلة رحلات غير المأهولة، وفي ظل التنافس العسكري الروسي الأميركي أثناء الحرب الباردة". يضيف: "طرحت حينها تساؤلات كثيرة حول قدرة الإنسان على التصرف في ظروف اللا جاذبية لفترات طويلة، إذ أمكن حينها محاكاة هذا الأمر على طائرات لمدة لا تزيد عن دقيقة واحدة أثناء السقوط الحر، علماً أن تجاوز هذه المدة يتسبب في تحطم الطائرة. لكن غاغارين أثبت أثناء رحلته أن الإنسان قادر على تناول الطعام والشراب عبر أنبوب، والتعامل مع جهاز الراديو في ظروف اللا جاذبية". 

رحلة بنظام أوتوماتيكي
وأجريت رحلة "فوستوك 1" بالنظام الأوتوماتيكي بالكامل بسبب وجود مخاوف من فقدان الإنسان القدرة على التحكم بنفسه في ظروف اللا جاذبية، لكن غاغارين كان تسلم شيفرة خاصة للانتقال إلى النظام اليدوي إذا اقتضى الأمر. 
وحول أسباب اختيار غاغارين تحديداً لتنفيذ هذه الرحلة، يشرح بيرفوشين أنه "لم يجرِ اختيار غاغارين لهذه المهمة صدفة، إذ أظهر أكبر درجة من الاستقرار النفسي بين نحو 20 مرشحاً أثناء الاختبارات، وتميز بقدرته العالية على التحوّل من العمل إلى الراحة والعكس". 
ويشير إلى أنّ إرسال الإنسان إلى الفضاء ارتبط في الأساس بأهداف عسكرية واستخباراتية، إذ "كان يجري تصميم الأجهزة الفضائية في الأساس لتنفيذ مهمات استطلاع، وحتى أنّ غاغارين كلّف بتنفيذ مهمة عسكرية تشمل تقييم قدرة الإنسان على رصد مواقع على الأرض من الفضاء. وفي الرحلة التالية، أجرى رائد الفضاء السوفييتي الثاني غيرمان تيتوف أول عملية تصوير من الفضاء". 
وبعد رحلة غاغارين، أصبح الاتحاد السوفييتي أول بلد في العالم ينجح في إرسال الإنسان إلى الفضاء، ما عزز مكانته في الساحة الدولية وسط احتدام التنافس مع الغرب. وتحوّل غاغارين من طيار شاب نشأ في عائلة بسيطة إلى شخصية عالمية حرص الملوك والرؤساء على استقباله ومصافحته، ليصبح أحد رموز الاتحاد السوفييتي في العالم. 

حلّق غاغارين على متن مركبة "فوستوك1" (العربي الجديد)
حلّق غاغارين على متن مركبة "فوستوك1" (العربي الجديد)

ألغاز وطرائف 
كانت أول رحلة مأهولة إلى الفضاء مليئة بمواقف طريفة لم تكشف إلا بمرور الزمن، وبينها وجود رائدي فضاء "احتياطيين" هما غيرمان تيتوف وغريغوري نيليوبوف في مطار الفضاء في وقت عملية الإطلاق. وهما شاركا غاغارين في تسجيل كلمات "إلى الشعب السوفييتي". 
وأعدت وكالة الأنباء الرسمية السوفييتية "تاس" حينها ثلاثة أخبار مسبقاً، أولها حول نجاح الرحلة، والثاني حول عملية البحث عن رائد الفضاء، والثالث في حال وقوع كارثة. 
واللافت أنه أعلن أولاً أن الرحلة استغرقت 108 دقائق، لكن البيانات التي رفعت السرية عنها لاحقاً أظهرت أن مدة الرحلة بلغت 106 دقائق. 
وخلال عملية الهبوط، نطق غاغارين في اتصال أجراه مع الأرض بجملة "أنا أحترق. وداعاً أيها الرفاق" بعدما رأى ألسنة لهب عبر نافذة المركبة أثناء مرورها بالطبقات الكثيفة للغلاف الجوي. لكن تبين لاحقاً أن هذه الظاهرة طبيعية، وتحدث في كل رحلة لدى احتكاك المركبة بالغلاف الجوي، وهو مشهد اعتاد رواد الفضاء على رؤيته حالياً.
وقبل الرحلة بيومين، كتب غاغارين رسالة وداع لزوجته، لكنها لم تتسلمها إلا بعد مقتله في حادثة تحطم طائرته أثناء تحليق تدريبي في مارس/ آذار 1968، حين جرى تداول ألغاز ونظريات كثيرة عن وجود مؤامرة مرتبطة بعودته حياً من الفضاء قبل سبع سنوات. لكن بيرفوشين يلفت إلى أن الواقعة نتجت من سلسلة ظروف مأساوية، ويقول: "صحيح أنّ شائعات كثيرة متداولة حول مقتل غاغارين، لكنّ الحادثة نتجت من مجموعة ظروف مأساوية، بينها تنفيذ التحليق على متن طائرة حربية من طراز ميغ 15 احتوت خزانات وقود معلقة، وعدم امتلاك غاغارين خبرة في قيادتها، إلى جانب سوء الأحوال الجوية، وحدوث خلل في ترتيبات التحليق". 

وبالعودة إلى نتائج رحلة غاغارين الأولى إلى الفضاء، يؤكد بيرفوشين أنّها "لم تقتصر على تحقيق اكتشافات علمية مهمة، بل شملت جوانب اجتماعية وثقافية، إذ أثبتت أنّ الإنسان أصبح كائناً يستطيع تجاوز نطاق كوكبه، وحفّزت الأميركيين على تنفيذ أول رحلة إلى القمر عام 1969". 
ويرى أنّه "مع توسع نشاط الإنسان في الفضاء الكوني، لا تزال شعبية غاغارين تزداد حتى اليوم بعدما شكلت رحلته محطة فاصلة في علاقة الإنسان بالفضاء".

المساهمون