تشهد حالات العنف الأسري والانتحار والابتزاز تزايداً ملحوظاً في العراق، ويتطلب الأمر تطبيق استراتيجية مواجهة تتشارك فيها مؤسسات الدولة، وإقرار تشريعات لردع المتورطين. "العربي الجديد" حاورت مدير عام الشرطة المجتمعية، العميد غالب عطية، ليكشف بالأرقام حجم المخاطر التي تمس المجتمع نتيجة اتساع هذه الظواهر.
بدايةً، عرفنا على طبيعة المهام والأدوار التي تضطلعون بها، وهل تتوقف على الحالات الإنسانية؟
للشرطة المجتمعية أدوار مهمة ضمن واجباتها، والحالات الإنسانية جزء من عملنا الوقائي والاستباقي للحد من الجرائم، ومهامنا تسير في اتجاهين، الأول مع المؤسسات الأمنية من أجل أن يكون أداء الشرطة العراقية إنسانياً وحضارياً وفق معايير حقوق الإنسان، والتقليل من عسكرة المجتمع بالتركيز على الجوانب المدنية، والاتجاه الثاني يركز على تثقيف المجتمع حول كيفية حماية الأسرة، وتعزيز الروابط بين أفرادها لمنع اختراقها من قبل ضعاف النفوس، والإبلاغ عن أية حالات تضر بالأسر، مع تعزيز الحماية بنصب كاميرات المراقبة وغيرها من الأساليب التي تعزز أمن المواطنين.
ما هي الجرائم التي تتابعونها ومع من تتعاونون؟
نعمل على جميع الجرائم التي تمس المواطن بشكل مباشر، كالمخدرات، والعنف الأسري، والابتزاز الإلكتروني، والاتجار بالبشر، والتسول، والتسرب من المدارس، ومحاربة الإرهاب والتطرف عبر برامج تنفذ بالتعاون مع منظمات دولية، على رأسها منظمة الهجرة الدولية، التي قدمت لنا دعماً كبيراً، إذ مولت بناء أكثر من 20 مقراً للشرطة المجتمعية في المحافظات، ودعمتنا بالآليات وأجهزة الاتصالات والتجهيزات والتدريب. وبموازاة ذلك، نتعاون مع الأجهزة الأمنية التي تطلب تدخلنا، وخاصة في ما يردنا من مراكز الشرطة، إذ لدينا ممثلون هناك، ونحاول من خلالهم حل المشاكل قبل الوصول إلى مرحلة القضايا، وبالتالي نقلل الضغط على المراكز والمحاكم، ودورنا قلل الضغط بنسبة 40 في المائة بالفعل.
هل تمتلكون صلاحية تنفيذ الأوامر القضائية؟
لا نمتلك ذلك، وإنما يركز عملنا على متابعة المتضررين، وتثقيف المجتمع، وحل المشاكل بين الأفراد ودياً بدلاً من فتح محاضر تحقيق أو الوصول إلى القضاء، وهذا يتحقق عبر عناصرنا، وهم ضباط وباحثون اجتماعيون وقانونيون ومتخصصون في علم النفس. عمليات القبض تقع على عاتق الأجهزة الأمنية المختصة، وربما ترافقنا في بعض الحالات إن تطورت الحالات وتطلبت تدخلاً أمنياً مباشراً.
كيف تقيمون عمل النساء في الشرطة المجتمعية، وما هي أدوارهن؟
عملهن مهم للتواصل مع الضحايا من النساء، والاتصالات التي تردنا تكون من نساء بنسبة 80 في المائة، وأكثرهن يتحدثن عن تعرضهن لجرائم أو اعتداءات. وبعد الاتصال، تقوم موظفاتنا بالمتابعة لحل القضايا، و60 في المائة من الحالات تتطلب الحضور، والبقية تُحل عبر الاتصال بهن، أو بالمسؤول عن المشكلة، أو تسيير فرق من النساء للإطلاع على المشاكل عن قرب، والتدخل لحلها، خصوصاً أن البعض منهن لا يستطعن الخروج من منازلهن بسبب ما يتعرضن له من عنف أو ابتزاز.
ما أكثر الحالات التي تتلقون اتصالات للتدخل بشأنها؟
العنف ضد النساء يتصدر الحالات، وخلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري، عالجنا أكثر من 800 حالة عنف ضد نساء، وفي المقابل، هناك عنف ضد الرجال أيضاً، وزادت الحالات عن 200، وأكثر من 80 حالة منها ضد أطفال.
كيف تتعاملون مع حالات العنف الأسري التي تردكم؟
نتعامل مع كل حالة حسب وضعها، فأحيانا يكون العنف نفسياً، وبالتالي يمكن حله عبر تدخل باحث اجتماعي يتحدث مع المسؤول المباشر عن تفاقم الحالة، وتنبيهه إلى أن الأمر قد يعرضه لعقوبات قانونية تصل إلى السجن. وهناك عنف مباشر، وهذه جرائم تتخذ فيها إجراءات قانونية بعد تقديم الشكوى، وكل الحالات التي تردنا نتابعها في سجل خاص، ونجري زيارات ميدانية متكررة حسب خطورة كل حالة للاطلاع على واقع الأمر، وتطور الحالة.
كم عدد حالات هروب الإناث المسجلة هذا العام بسبب العنف الأسري؟
سجلنا منذ مطلع العام أكثر من 70 حالة في عموم العراق، وتمت إعادتهن إلى ذويهن. ومؤخراً سجلنا حالتين لفتاتين، إحداهن من بغداد، والثانية من النجف. حالات الهروب تزيد بشكل مضطرد، وهذا أمر خطير، وثمة حالات مسجلة بسبب تعرض الفتيات للابتزاز الإلكتروني، وخشية افتضاح أمرهن، وبعضهن هربن بسبب إقامة علاقة مع أشخاص أقنعوهن بترك أهلهن، ومواقع التواصل تقف خلف غالبية حالات الهروب، وأكثر الهاربات أعمارهن دون 16 سنة.
أين تذهب الهاربات من ذويهن، وهل تنفذون حملات للبحث عنهن؟
البعض منهن يهربن عند أقاربهن أو صديقاتهن، وحينها يمكن التواصل معهن لإعادتهن. وكلما كان الهروب حديثاً، كان حل المشكلة أسهل، لكن في حال وصلت الفترة إلى أشهر، فعندها يكون من الصعب إعادتهن، وبعض الحالات يكون مصيرهن النوادي الليلية، أو دور الدعارة ومراكز المساج، وهناك أخريات يجدن عملاً محترماً، وينفقن على أنفسهن، لكنهن قلة قليلة.
كيف تعلقون على الانتقادات الموجهة إليكم حول إجبار الفتيات على العودة إلى ذويهن رغم تعرضهن للعنف؟
هنالك انتقادات وردتنا من منظمات دولية، ونحن نأخذ تعهدات من ذويهن بعدم التعرض لهن، ونحذرهم من التعرض للملاحقة القانونية. ومن ينتقدون يعتمدون على قيم مجتمعية في بلدانهم مختلفة عن الموجودة في العراق، وطالما يمكن حل المشكلة بين الفتاة وذويها فإن إعادتها أفضل، كما أننا لا نجبر الفتاة على العودة إن رفضت، وبعد عودتها نتواصل معها ومع ذويها لإزالة المسببات التي دفعتها للهرب، ولم يحدث أن أعدنا فتاة إلى ذويها وتعرضت لخطر على سلامتها أو حياتها.
هل ثمة حالات هروب لفتيات تطورت إلى الاختطاف، أو التورط بالسرقة؟
بالنسبة للاختطاف، لدينا حالات لفتيات جرت مساومة ذويهن على دفع أموال، وبالنسبة لسرقة الأموال هناك حالات محدودة، وآخرها قيام فتاة لا يزيد عمرها عن 16 سنة بسرقة 95 مليون دينار من ذويها (65 ألف دولار تقريباً)، وهروبها مع شخص أقامت معه علاقة، وبعد تتبع الموضوع، وجدنا أنها بمحافظة أربيل، وبعد الوصول إلى الفندق الذي تقطن فيه، كان الشخص الذي هربت معه قد استولى على المال وتركها. مثل هذه القصص نعيد سردها على الفتيات ضمن جهود التوعية خلال ندوات مستمرة في المدارس والجامعات لتحذيرهن من الوقوع في شراك هؤلاء.
كم عدد الحالات التي عالجتموها لأطفال وكبار سن مشردين، وكيف تصلون إلى ذويهم، وأين يتم إيواؤهم؟
عالجنا مئات الحالات خلال هذا العام، وهناك من نعيده إلى ذويه، وهؤلاء يمثلون أغلب الحالات. وهناك من نضطر للذهاب به إلى مراكز الإيواء، لأنه إما لا تكون لديه عائلة، أو طفل يجهل مكان عائلته، أو يكون كبيرا في السن ولا يرغب بالعودة، ومع ذلك نتواصل مع ذويه لتحديد الموقف.
ما هي أسباب الانتحار الأكثر شيوعاً، وما عدد حالاته المُسجلة خلال هذا العام؟
أكثر الأسباب تعود إلى العوامل الاقتصادية، كالفقر والبطالة، وهناك أسباب أخرى كممارسة العنف ضد الضحية، أو تعرضها للابتزاز، أو خشيتها من الفضيحة، وأغلب ضحايا التعنيف والابتزاز هم من النساء. في المتوسط، نُسجل حالتي انتحار يومياً، ونمنع سنوياً 30 حالة تقريباً، وحالات الانتحار في تزايد للأسف، وسجلت محافظة ذي قار أعلى معدل هذا العام، وتليها ديالى، ثم كركوك، والمحافظة التي سجلت أكثر الحالات عددياً هي العاصمة بغداد على اعتبار أنها المدينة الأكثر سُكاناً في العراق.
هل ثمة حالات انتحار ثبت أنها قتل عمد؟
سجلنا حالات انتحار أثبتت التحقيقات أنها كانت جرائم قتل، وبعضها جرائم شرف ضمن ما يسمى "غسل العار"، ونسبتها من حالات الانتحار المسجلة لا تزيد عن 2 في المائة، وهناك من يبلغ عن وفاة نتيجة سقوط من مكان عالٍ أو الحرق، ويتضح أنها حالة انتحار.
لماذا تتنامى ظاهرة الابتزاز الإلكتروني رغم حملات التوعية؟
لن تتراجع هذه المشكلة إلا بإقرار قانون خاص بالجرائم الإلكترونية لردع المبتزين عبر عقوبات صارمة، واقترحنا فرض غرامات مالية تصل إلى 20 مليون دينار عراقي (13500 دولار) على المبتزين تضاف إلى عقوبة السجن، وحالياً يُتعامل مع المبتز عبر قانون العقوبات، والعقوبة في أقصى حالاتها لا تزيد عن السجن 7 سنوات.
معلوم أن غالبية جرائم الابتزاز يتورط فيها رجال، هل سجلتم حالات ابتزاز من نساء؟
بالتأكيد، في بعض الحالات تقوم النساء بتصوير رجال لابتزازهم مادياً، وهناك ابتزاز من نساء لنساء، إما صديقات أو زميلات، لكن الأعداد قليلة مقارنة بما يتورط فيه الرجال.
هل ما زال امتناع النساء عن طلب المساعدة أو تقديم شكوى مشكلة تساهم في عدم ردع المبتزين؟
نعم للأسف. استطعنا خلال هذا العام أن نعالج 800 حالة على الأقل، لكن كثيرات من الضحايا لا يطلبن التدخل، أو يخشين تقديم شكوى لأن الموضوع يمكن أن يصل إلى مستوى الوصمة الاجتماعية. نحاول التدخل لمعالجة الموقف، إذ لا خيار أمام الضحية لمواجهة المبتز سوى طلب المساعدة، وفي بعض الحالات، أجبرنا المبتز على حذف المحتوى الذي يهدد به الضحية، وتوقيع تعهد بعدم التعرض لها في مقابل عدم إقامة دعوى ضده. لكننا دائماً ندعم تقديم الضحية بلاغاً ضد المبتز للسير في السياقات القانونية، وهناك حالات استطعنا فيها القبض على المبتز بالتعاون مع الجهات الأمنية عبر كمين أثناء الاتفاق معه على دفع الأموال التي يطلبها.
ماذا عن المبتزين من خارج العراق الذين يستهدفون أشخاصاً في الداخل؟
لدينا تواصل مع أجهزة الشرطة العربية والدولية، ونحرك الملفات بناء على الدعاوى، لكن الإجراءات تكون بطيئة للغاية من قبل الجهات في الخارج.
كيف تتعاملون مع التسول، وما هي البنود القانونية المطبقة؟
هذا أحد الملفات الخطيرة، ونتعامل معه عبر 3 فئات، الأولى تمثل المحتاجين للأموال بغية سد حاجاتهم المعيشية، وهؤلاء غالبيتهم من الأطفال، ولا تطبق عليهم العقوبات القانونية، ونتواصل مع وزارة العمل بغية تخصيص راتب للعائلة، أو تشغيل الأم أو الأب. والفئة الثانية هم من يمارسون التسول بغية الكسب غير المشروع. والثالثة هم المرتبطون بعصابات، وهؤلاء يطبق عليهم القانون، وقانون العقوبات ينظر بعين الرأفة إلى المتسولين أياً كانت فئتهم، ولا توجد أحكام رادعة، لكنه يتعامل مع العصابات وفق قانون مكافحة الاتجار بالبشر، وتصل الأحكام إلى السجن 15 عاماً، والقانون يطبق عليهم بصرامة.
هل ثمة جهات تعمل حلقةَ وصل بين الضحايا والشرطة المجتمعية؟
نتعاون مع منظمات المجتمع المدني، ولدينا خط ساخن للاتصال، وصفحات ومنصات رسمية على مواقع التواصل لاستقبال رسائل المتضررين.
ماذا عن دوركم في حل النزاعات العشائرية؟
لدينا شعبة خاصة باسم "التنسيق العشائري"، وفيها شيوخ وأبناء عشائر، وهم يتدخلون للصلح بين العشائر المتخاصمة، والإشراف على حل النزاعات. أكثر ما نعانيه في ملف النزاعات العشائرية هو التعامل مع مدعو المشيخة، وهؤلاء يقفون وراء أغلب المشاكل بين العشائر، أما الشيوخ الحقيقيون فهم متعاونون، ولديهم سلطة معنوية على أفراد العشائر تُحدث انضباطاً يمنع تطور الأمور في حال نشوب خلافات. وتلعب شعبة التنسيق العشائري دوراً مهماً في التوعية بمخاطر النزاعات، والمخدرات، والابتزاز، واستخدام السلاح، ونقوم بزيارات ميدانية، وننظم ندوات توعية في مضايف العشائر.
تتزايد الحالات المجتمعية التي تتابعونها، فما هي رؤيتكم لإيجاد معالجات جذرية؟
ملفات الانتحار والاغتصاب والتسول والابتزاز والمخدرات وغيرها من القضايا التي أشرنا إليها تحتاج إلى استراتيجيات وطنية لمعالجتها، وإلى تعاون الوزارات والجهات الرسمية، وكذلك تدخل المؤسسة الدينية، وينبغي أن تشترك كل الجهات في معرفة الأسباب، وإيجاد حلول استباقية. وبصراحة، فإن الضبط المجتمعي ضعيف، وهو يبدأ من العائلة التي لا تقوم بدورها في المتابعة والتوعية، وهناك تقصير كبير من قبل المؤسسات التربوية، ومن وسائل الإعلام، والمؤسسات الإعلامية تطلب دفع أموال مقابل بث برامج التوعية رغم الخطر الذي يهدد الجميع، والذي ينبغي أن تتضافر كل الجهود لمواجهته.
سيرة ذاتية
ولد غالب العطية خلف في عام 1970 بمحافظة ديالى، وبالتزامن مع عمله في سلك الشرطة، حصل على بكالوريوس في الإعلام من جامعة بغداد. اختير عضواً في عدد من اللجان الوطنية المختصة بالمرأة والطفل وكبار السن، كما كلف للعمل ناطقاً باسم اللجنة الأمنية العليا للانتخابات البرلمانية في 2021. هو حالياً مدير جهاز الشرطة المجتمعية في وزارة الداخلية، وعضو لجنة الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الانتحار، ومن بين مهامه نشر الوعي الأمني الوقائي.