استمع إلى الملخص
- في يوم الكارثة، عاد والدها لجلب حاجيات ورافقته والدتها وندى، لكن القصف بدأ بعد 15 دقيقة، وانقطع التواصل معهم، وتم التعرف على جثثهم لاحقًا.
- ندى كانت تشعر بالخوف منذ بدء الحرب، واستشهدت قبل تحقيق أحلامها. نادين تعيش الآن في حزن عميق، تكتب رسائل لعائلتها الراحلة وتغني لهم أغاني الوداع.
تعيش الشابة نادين الدهشان فصول صدمة كبيرة، إذ فقدت والديها وشقيقتها في قصف للاحتلال الإسرائيلي على مدينة غزة، بينما تتجرع مع أشقائها الناجين حالياً الأحزان وتسترجع الذكريات.
تقول نادين لـ"العربي الجديد": "لا أعرف من أين أبدأ؟ هل أحكي عن احتفالاتنا؟ عن لمّاتنا الحلوة؟ أم عن يوم المأساة الذي أتمنى لو كان كابوساً مفزعاً أصحو منه؟ أتم أبي هايل الدهشان الخمسين من عمره في يوم استشهاده، ولم تتجاوز أمي هبة الخضري الثالثة والأربعين، بينما شقيقتي الصيدلانية ندى الدهشان أنهى الاحتلال عمرها عند 22 سنة بقصف استهدفهم جميعاً في حي الصبرة بوسط مدينة غزة، يوم العشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي".
تضيف: "عقلي لم يستوعب بعد حجم الصدمة التي أصابتني. أتذكّر آخر يوم اجتمعنا فيه. كان يوم حفل تخرّج الشهيدة ندى وحصولها على بكالوريوس الصيدلة، وتحدثت يومها عن حلمها بأن تستكمل دراستها، وتمنّت لو تحصل على منحة دراسية خارج غزة، وخارج أسوار الحصار الإسرائيلي المطبق على القطاع منذ 17 عاماً. لم تكن تعرف أن أحلامها ستتوقّف في هذا اليوم الدامي".
تخبرنا الشابة الفلسطينية أنها في يوم الكارثة سمعت صوت أمها تعاتب أبيها حين عرفت أنه عاد إلى منزلهم في حي الصبرة بعد أن نزحوا منه إلى مكان آخر في الحي ذاته. قالت له إنها كانت تريد بعض الحاجيات من المنزل، وإنه كان عليه اصطحابها معه إلى هناك. تعتقد نادين أن أمها لم تكن تريد شيئاً بعينه، وإنها فقط كانت تشتاق للمنزل، وتبحث عن حجّة لزيارته.
وتضيف: "حين سمعت ندى حديثهما، اشترطت عليهما اصطحابها معهما، فانطلقوا إلى المنزل، وبعد نحو 15 دقيقة، بدأ القصف، فانقطع التواصل تماماً. خمّنا أنهم حوصروا في المنزل، وربّما قرروا البقاء فيه للاحتماء حتى تهدأ الأمور. لكن الانتظار طال، ولم يعودوا، حتى بعد توقف القصف".
تشتعل نيران القصف في كل مكان، ونيران أخرى تحرق قلوب الأشقاء نادين وآية وكريم ووسيم، مرّت الليلة عصيبة، وحاول أعمامهم إقناعهم بأن ما حصل مع أبيهم وأمهم وشقيقتهم مجرّد حصار، وسينتهي في الصباح، وسيعودون بسلام. توالت الأخبار بعدها عن قصف سيارة بنفس مواصفات سيارتهم، ثم عثر لاحقاً على هوية الأب هايل، وتعرّف عليه الناس. كان جثّة هامدة.
تقول نادين: "وجدوا جثثهم في الشارع. عرفوا بابا من هويته، ثم عرفوا أمي وأختي. أرفض تصديق ما حدث. أشاهد صور العائلة على الهاتف وأبتسم. ثم أبكي كثيراً وألعن الحرب".
منذ بدء الحرب على القطاع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لم تخف ندى شعورها بالخوف، وكانت تقول: "رح أموت بدري"، وصارت تكرر هذا علناً بعد أن كانت تقوله في السر. صار الموت تحت القصف في غزة مشاعاً، وأكثر من خيارات الحياة.
تضيف: "كانت ندى السند المتين لنا تحت القصف. كانت تقول إنها لا تخاف الصواريخ ولا القذائف، لكنها كانت ترتعب من فكرة فقد أحد أفراد أسرتها. تدمرت الأسرة كقطعة هشّة من البسكويت بعد تناثر أجساد الشهداء على الطرقات، وتحطمت قلوبنا نحن الناجين، إذ صرنا في عداد اليتامى، وأصبحت قصّتنا مخضبة بالدماء ضمن مسلسل مأساوي من فصول الحرب المستمرة".
تصف نادين أبوها قائلة: "كان نقياً تقياً، يحب الناس ويحبونه، ولا يتردد في مساعدة أحد. كان يعمل في قسم التحويلات العلاجية لمرضى قطاع غزة، واختار الاحتلال أن يحرمنا منه في يوم ميلاده. يوم احتفالنا به صار يوم مأساتنا وقهرنا ونكبتنا. وكانت أمي طيّبة وحبيبة كل الأصدقاء والأقارب، ولم ترد إنساناً يطلب المساعدة، وكانت أول من يقف في الأفراح وآخر من يغادر في الأتراح، وحتى الرمق الأخير كانت تقاوم اليأس والإحباط رغم ظروف غزة، وتقدّم مساحة رحبة لاستيعاب الناس، ومساندتهم، حتى كانوا يخبرونها أنها اسم على مسمى، وهبة لكل الناس".
أما ندى، فقد باغتتها الحرب قبل أن تحقق حلمها باستكمال دراساتها العليا، واستشهدت قبل أن تؤدي العمرة التي حلمت بها، وكانت ترقب صور الأصدقاء والصديقات عبر مواقع التواصل، وتطلب من أبيها أن تكون هدية تخرجها رحلة عمرة، فصارت صورها أكثر رواجاً، وعرفها العالم، داخل وخارج فلسطين. تقول نادين: "رحيلهم حُلم، ونعيهم حلم، وضحكتهم شمس لا تغيب، ورسائلي لهم لن تنقطع. أكتب كلّما اشتد ضيق صدري، وكلّما شعرت أن صاروخاً سيباغتنا. نحن الأموات مع وقف التنفيذ. أغني لهم: مع السلامة يا مسك فايح، وأنا التي ظننت أنني سمعت الأنشودة صدفة في رثاء أحد الشهداء، ولم أعرف أنني سأكون من ذوي الشهداء يوماً. كان ثلاثتهم كالمسك، بابا هايل وماما هبة والحبيبة الحنونة أختي ندى".