غزة والداخل... هكذا قطع الاحتلال الإسرائيلي التواصل الفلسطيني

30 مارس 2022
من يوميات أهل غزة (مجدي فتحي/ Getty)
+ الخط -

نجح الاحتلال الإسرائيلي في إبعاد أهل قطاع غزة عن أهل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، مذ أعلنه "كياناً معادياً". يحكي فلسطينيون من الداخل لـ"العربي الجديد" عن علاقاتهم بفلسطينيي غزة وبالقطاع بحدّ ذاته.

كان الفلسطينيون في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، أو ما يُعرَف بالداخل الفلسطيني المحتل، الذين فُرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية، قادرين على التنقّل بين مدن الضفة الغربية وقطاع غزة (كان حينها تحت الاحتلال الإسرائيلي) قبل اندلاع الانتفاضة الثانية أو "انتفاضة الأقصى" في عام 2000، وكان الترابط الفلسطيني بين أهل الوطن الواحد كبيراً، على الرغم من اعتراض الأحزاب اليمينية الإسرائيلية. وقد تمكّنت الحكومات الإسرائيلية من خلق شرخ كبير بين فلسطينيي الداخل ومواطنيهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، علماً أنّها كانت أكثر تشدّداً في غزة، حيث راحت تتنامى حركات المقاومة. وهكذا انقطع حبل التواصل ما بين المجتمع الفلسطيني الغزي والمجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل.

تتذكّر ميساء منصور (29 عاماً) من بلدة مجد الكروم في قضاء عكا زيارتها وهي طفلة لقطاع غزة. كانت تبلغ من العمر حينها أربعة أعوام فقط، لكنّها ما زالت تسترجع تجوّلها مع عائلتها وتمتّعها بمشهد بحر غزة. وتشير إلى أنّ انتفاضة الأقصى مثّلت نقطة تحوّل بالنسبة إليها، إذ إنّها راحت بعد ذلك تبحث عن قضيتها الأساسية في الكتب ومن خلال الشخصيات الفلسطينية. ولا تخفي ميساء أنّها نشأت في عائلة من دون انتماءات سياسية لم تمدّها بالتوعية الوطنية اللازمة. لكنّها بعد تلك الانتفاضة واستشهاد الطفل محمد الدرّة (سبتمبر/ أيلول 2000)، بدأت تتابع الأخبار وتسأل والدها عن كلّ المعاني الوطنية الفلسطينية وعن الاحتلال وأحداث جنين وغزة. وهكذا أدركت أنّ "فلسطين محتلة، وأنّ حكومة الاحتلال عنصرية".

الصورة
ميساء منصور وكريم أبو الروس في إسطنبول (العربي الجديد)
ميساء منصور وكريم أبو الروس في إسطنبول (العربي الجديد)

تخبر ميساء أنّها قرأت عن شعوب تحت الاحتلال، وقرأت كذلك رواية "البؤساء" للكاتب الفرنسي فيكتور هوغو، وعزّزت ثقافتها الفلسطينية بقراءة مؤلفات لكتّاب فلسطينيين، قبل أن تتبادل كتباً ومعلومات مع فلسطينيين من الضفة الغربية. لكنّها كانت تشعر بنقص في ما تعرفه عن قطاع غزة ومجتمعه. وتقول ميساء: "كان ثمّة انفصال عن غزة. في ذهني كان القطاع مكاناً للمقاومة ولأناس يريدون تحرير بلد، لكنّني لم أكن أعرف أيّ شيء آخر عنهم. وفي عام 2012، تعرّفت إلى ناشطين اجتماعيين وسياسيين، وبدأت تردني صورة غزة الحقيقية... شباب يئسوا من الحياة تحت الحصار، وأشخاص مبدعون ويحبّون الموسيقى والغناء والسلام. وأصبحت أحبّ غزة كثيراً، وشاء القدر أن أتزوّج شاباً غزياً".

اقترنت ميساء بالباحث والكاتب الغزي كريم أبو الروس، وقد تعارفا عبر التواصل الاجتماعي، هما اللذان يتناولان القضايا الاجتماعية والسياسية الفلسطينية. واليوم، يعيش الزوجان في تركيا، إذ إنّ ميساء لا تستطيع العيش مع كريم في غزة، فالحكومة الإسرائيلية تعدّ القطاع كياناً معادياً منذ عام 2007، وتمنع حاملي الهوية الإسرائيلية من دخوله. يُذكر أنّ ميساء تلقّت انتقادات كثيرة لقبولها الزواج بغزي، نظراً إلى "الانفصال الجغرافي"، لكنّ والدها اقتنع بزواج ابنته وعيشها مع زوجها في خارج فلسطين. وتعدّ ميساء نفسها منحازة جداً إلى قطاع غزة، وتلفت إلى أنّها في خلال العدوان الإسرائيلي عليه في عام 2014، تعرّضت لتمييز عندما نزلت إلى ملجأ في مدينة بئر السبع المحتلة، وهي تضع حجاباً، قبل أن يحتدّ النقاش مع إسرائيلي متطرّف حول كيفية غياب الحقيقة عن المجتمع الإسرائيلي، ألا وهي أنّ القوات الإسرائيلية تقتل الأبرياء الغزيين.

قضايا وناس
التحديثات الحية

تجدر الإشارة إلى أنّ دولة الاحتلال تسمح للغزيين بدخول الأراضي المحتلة عام 1948 استثنائياً في الحالات المرضية، لكنّها تنظر إلى دخول عرب الـ 48 إلى قطاع غزة كجريمة، الأمر الذي حال دون ظهور حقيقة ما يعيشه سكان القطاع. أمّا سكان الضفة الغربية، فيُسمح لهم بدخول تلك المنطقة للعمل. في المقابل، يأتي الفضاء الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي ليلغيا قيود الاحتلال ويسمحا بالتواصل. لكنّه على الرغم من الخرق الذي حدث، ثمّة فجوات ما زالت قائمة في تفسير أمور وأحداث وأثرها النفسي على الطرفَين الواقعَين إمّا تحت الاحتلال وإمّا تحت حصار الاحتلال.

بالنسبة إلى فريدة الجدي (50 عاماً)، وهي من مواليد مدينة الرملة المحتلة شمال غربي القدس، فقد تزوّجت غزياً في عام 1991، لكنّها حُرمت رؤية أهلها، إذ لم تستطع زيارتهم في مسقط رأسها منذ عام 2007. وبعد 14 عاماً، في عام 2019، التقتهم في مدينة شرم الشيخ المصرية. ترى فريدة، وهي مدرّسة لغة إنكليزية في إحدى مدارس غزة الخاصة، أنّ تفاصيل حياتية كثيرة تختلف بين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 وقطاع غزة والضفة الغربية، موضحة أنّ الانقسام الفلسطيني والحصار الإسرائيلي ساهما بذلك، إلى جانب الإعلام العبري الذي يوجّه الرأي العام من خلال تغيير وقائع حول حياة الغزيين ومناحيها المختلفة. وتقول فريدة: "على الرغم من ترابط يظهر علناً بين الفلسطينيين، فإنّ الحصار الإسرائيلي أبعد مجتمع الداخل الفلسطيني عن ذلك الغزي. الاحتلال يريد قطاع غزة مقطوعاً عن مجتمع الداخل اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، وحتى رياضياً".

الصورة
بسطات وسط دمار غزة بعد عدوان 2021 (مجدي فتحي/ Getty)
محاولة غزية دائمة للنهوض رغم الدمار (مجدي فتحي/ Getty)

من جهته، كان الكاتب والباحث الفلسطيني ميخائيل خوري من مدينة الناصرة المحتلة يزور قطاع غزة قبل عام 2007، وكان يحبّ الجلوس على شاطئ بحره وتناول السمك في مطعم "السماك" الذي كان يُعَدّ من أشهر مطاعم غزة حينها. وكانت له شقيقة تعيش في غزة مع زوجها قبل العدوان الإسرائيلي الثاني في عام 2012، وقد عاشت ظروفاً صعبة في خلاله، كما في خلال العدوان الأول (2008 - 2009)، لكنّها استطاعت الحصول على لجوء إلى السويد في النهاية.

يرى ميخائيل خوري أنّ مواقع التواصل أدّت دوراً مهماً في خلال العدوان الإسرائيلي الأخير (2021) بربط غزة بالداخل، علماً أنّها ساهمت في تمييز كبير في حقّ فلسطينيي الداخل المتضامنين مع القطاع. بالنسبة إليه، إنّ العنصرية التي يتعرّض لها سكان قطاع غزة هي الأعظم، إذ إنّهم يستطيعون الوصول إلى قلب العاصمة الأميركية، لكنّهم غير قادرين على بلوغ البلدات العربية في الداخل المحتل. ويقول: "للأسف، ثمّة شبان في الداخل سُجنوا، ومنهم من وُضع على لوائح اتهام لأنّهم يتواصلون مع أهالي غزة. وكلّ ذلك لجعل القطاع الوحش الكبير بالنسبة إلى فلسطينيي الداخل، فيبقون اجتماعياً منفصلين عنه".

في هذا السياق، يوضح أستاذ علم الاجتماع في جامعة الأزهر، أحمد الحداد أنّه "عندما أعلن الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة كياناً معادياً في عام 2007، هدف إلى حصر الارتباط الفلسطيني بمجتمع الضفة الغربية، حيث نجح في تشييد جدار الفصل العنصري وتحكّم باقتصادها، وراح يراقب فلسطينييها ويقيّد حريتهم السياسية وكذلك الاجتماعية، ليعزل بذلك مجتمع غزة عن الكلّ الفلسطيني". ويشير إلى أنّ "ثمّة جمعيات كثيرة تدافع عن الحقّ الفلسطيني، لكنّ أهل غزة لا يعرفونها، وثمّة حركات شبابية في بلدات عربية تناصرهم، وقد جمع بعضها أدوية لمجمّع الشفاء الطبي". يضيف أنّ "ثمّة أطباء يعملون مع منظمات حقوقية دولية يدعمون سكان القطاع، مثل مركز عدالة ومركز مساواة ومراكز ثقافية تمثّل مساحة لرواية معاناة غزة".