فرح الفلسطينيين بالنجاح في الثانوية العامة لا يشبه غيره، فالظروف الصعبة التي يحيونها تحت ظلم الاحتلال تجعل من الدراسة والتفوق تحدياً يثبت الشباب الفلسطينيون عاماً بعد عام قدرتهم على اجتيازه.
وكان "العربي الجديد" موجوداً اليوم مع إعلان نتائج الثانوية العامة في فلسطين، ليشارك الطلاب أفراحهم وينقل غصة بعضهم وحزنهم بسبب غياب الأب الأسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
لم يكن العام الحالي بيئة مناسبة للدراسة والتفوق بالنسبة للفلسطيني أحمد منتصر شلبي، طالب الثانوية العامة من بلدة ترمسعيا شمال شرق رام الله، وسط الضفة الغربية، حيث كان اعتقل من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي التي هدمت منزله واعتقلت والده، الذي يتهمه الاحتلال بتنفيذ عملية إطلاق النار على حاجز زعترة المقام جنوب نابلس شمالي الضفة الغربية، والتي أدت إلى مقتل إسرائيلي وإصابة آخرين، ورغم كل ذلك، تفوق أحمد في امتحان الثانوية العامة الذي صدرت نتائجه اليوم الثلاثاء.
وفي الرابع من مايو/ أيار الماضي، اعتقلت قوات الاحتلال أحمد من منزله، واستمر الاعتقال مدة اثني عشر يوماً، كوسيلة ضغط على والده، الذي كان متوارياً عن جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد تنفيذ عملية حاجز زعترة أثناء عتداءات الاحتلال على حي الشيخ جراح في القدس وعلى المسجد الأقصى، وكان وقتها أحمد يتقدم للامتحانات التجريبية للثانوية العامة.
خرج أحمد شلبي من السجن وكان والده قد اعتقل من قبل قوات الاحتلال قبل أيام من الإفراج عنه، لتنقلب حياته رأساً على عقب. فعدا عن اعتقال والده، كان يترقب قرار الاحتلال المنتظر باحتمالية هدم منزل العائلة الذي فيه "غرفة خاصة تسمى غرفة (التوجيهي)، كانت قد خصصت لشقيقتيه من قبله للدراسة، وخصصت له هذا العام".
ومن أمام المنزل المهدم، ومحاطاً بزملائه ووالدته المحتفلين بنجاحه ونجاحهم في امتحانات الثانوية العامة؛ يقول أحمد لـ"العربي الجديد" إن "الاحتلال كان يختار لإجراءاته العقابية المواعيد بدقة، مع الوقت، عرفت سياستهم؛ فقد أعلنوا عن قرار هدم المنزل قبل ثماني ساعات من تقديم أول امتحان للثانوية العامة، لكنهم لم ينفذوا القرار فوراً، وقاموا بهدم المنزل قبيل تقديمي الامتحان الأخير بساعات، وبين الموعدين، كنت أتوقع أنهم سيأتون في أي لحظة، هذه سياستهم.. يريدون أن أفشل".
عاش أحمد شلبي فترة الامتحانات منتظراً هدم منزله، وهي فترة اتسمت بـ"الصراع الداخلي"، كما يقول، وفيها "قدر كبير من الهواجس والتخوف"، لكنه استدرك: "كنت أقول لنفسي يجب أن أنجح ولا أريد أن أندم لاحقاً، أريد أن أنجح وأتفوق. تحديت نفسي وحصلت على معدل أعلى مما كنت أتوقع".
وتوقع أحمد الحصول على معدل لا يتعدى 88%؛ لكنه حصل على 92%، وما يفسر ذلك، كما يروي، أن تقديم الامتحانات أصبح تحدياً بالنسبة له، رغم تأثر نفسيته وتعبها.
كما تحول مدخل المنزل إلى مكان استقبال للمهنئين أيضاً، وفي ذلك رسالة من العائلة، التي لاحق جيش الاحتلال حتى المتضامنين معها من طلاب جامعة بيرزيت، حيث اعتقل منهم العشرات بعد زيارة تضامنية إلى المنزل منتصف الشهر الماضي، وبقي قرابة 16 منهم في المعتقل.
فرحة سناء شلبي، والدة أحمد وزوجة الأسير منتصر، كانت أيضاً تحمل هذه الروح؛ فهي تقول لـ"العربي الجديد": "إن نجاح ابني أحمد وتفوقه كانا مهمان بالنسبة لي، لكي يثبت للاحتلال أنه لم يهدم معنويات العائلة رغم هدم منزلها واعتقال زوجها".
وتقول سناء: "إن تفوق ابني عوضني عن كل الألم الذي رافقني منذ شهرين"، مضيفة عن أحمد: "لم تكن نفسيته على ما يرام، كان يقول لي في بعض الأحيان لا أريد أن أدرس، لأنني لن أنجح، لكنني كنت أعطيه المعنويات وأقول له، بل ستنجح وستثبت لوالدك أنك رغم الألم والصعوبات ستنجح"، تقول سناء شلبي.
صفاء البرغوثي
بمعدل 98.3% تباهي الفلسطينية صفاء عبد الله البرغوثي، 18 عاماً، بتفوقها بالثانوية العامة الفرع العلمي التي أعلنت نتائجها الثلاثاء، وذلك تزامناً مع غياب والدها الأسير عبد الله البرغوثي، 49 عاماً، في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عشرين عاماً، ومحكوم بالسجن 67 مؤبداً، والمنحدر من قرية بيت ريما شمال غرب رام الله والبيرة وسط الضفة الغربية.
ربما قدر الأسرى الفلسطينيين العيش في حصار الأرقام التي يفرضها الاحتلال في عدد سنوات محكومياتهم، وفي مواجهته، يحاول أبناء الأسرى الاستثمار في أرقام معدلات نجاحهم في الثانوية العامة كل عام، وتقول صفاء عبد الله البرغوثي لـ"العربي الجديد": "أهدي تفوقي ونجاحي في الثانوية العامة لأبي حبيبي وكل الأسرى وأهاليهم وأبنائهم الناجحين والمتفوقين في الثانوية العامة".
وعلم الجميع بنتيجة تفوق صفاء، إلا والدها لم يعرف بالنتيجة، كما ذوي الطلبة الآخرين. ويجبر الاحتلال الأسرى على انتظار سماع أسماء أبنائهم الناجحين في الثانوية العامة يتلوها أحدهم عبر المذياع، وبهذه الطريقة تلقى الأسير عبد الله البرغوثي، القابع حالياً في سجن ريمون، نبأ تفوق تالا، الابنة الكبرى، 22 عاماً، وأسامة الأخ الأوسط، 20 عاماً، من قبل شقيقتهم الصغرى صفاء التي بدأ صوتها بالتغير قليلاً، كلما جاءت على تفصيل بُعد والدها عنها بفعل الاحتلال في هذا اليوم الخاص تحديداً.
تقول صفاء: "غير متأكدة إذا علم والدي بخبر تفوقي أو لا.. يُفترض أنه سمع اسمي عبر المذياع، لا يسمح الاحتلال بالاتصالات لأهاتف والدي"، ولم تحتضن صفاء المتفوقة بنتيجة عالية في الثانوية العامة والدها أبداً في حياتها، فقد اعتقله الاحتلال عندما كانت تبلغ من العمر 35 يوماً فقط، ولم يسمح الاحتلال الإسرائيلي ولو مرة لها باحتضانه.
تقول صفاء: "لم أحتضن والدي ولا لمرة واحدة، ربما احتضنني وأنا رضيعة، وفي هذا اليوم، أفتقد كل شيء في والدي، أفتقد احتضانه لي ووجوده بيننا، كل يوم وكل دقيقة أنا وأمي وأخوتي نفتقد والدي حبيبي، لكن في الأفراح والأحزان يُضاعف شعور افتقاده بيننا، كل زميلاتي وبنات مدرستي كانوا برفقة آبائهم بانتظار النتيجة اليوم إلا أنا وأبناء الأسرى"، وكأن صفاء تحاول الثبات دون البكاء أثناء حديثها الممزوج بغصة، ثم تكمل "فرحتي اليوم ممزوجة بغصة وحزن، لأن والدي غير موجود معي لكنه في القلب دائماً".
وكما يقال ابن البط عوام، فالأسير عبد الله البرغوثي معروف بذكائه ونباهته، وقد درس هندسة الميكانيك في كوريا الجنوبية، وسار أبناؤه على دربه، ويعرف بين أهالي الأسرى تفوق أبنائه في التحصيل المدرسي والجامعي، وتوضح ابنة الأسير صفاء البرغوثي لـ"العربي الجديد" أن شقيقتها تالا تخرجت حديثاً بتفوق بعد دراسة علم الحاسوب في جامعة بيرزيت شمال رام الله.
وتؤكد صفاء في رسالة لأبيها الأسير عبد الله البرغوثي عبر "العربي الجديد": "بابا حبيبي، أنا اليوم أنهيت الثانوية العامة (التوجيهي)، وتفوقت وحصلت على معدل 98.3%، وإن شاء الله أكون قد رفعت رأسك، وإن شاء الله أجدك فخورًا بي، وأنا أحبك كثيرًا واشتقت إليك، وإن شاء الله نراك قريباً بينا".
لم تزر صفاء والدها منذ ثلاث سنوات، ولم يره أي من أمه السبعينية (صفاء) وأبيه الثمانيني (غالب) أو أخوته الاثنين وأختيه الاثنتين أيضاً منذ اعتقاله قبل عشرين عاماً، ويقيمون جميعهم في الأردن، ويمنعهم الاحتلال من دخول فلسطين، أو زيارة الأسير عبد الله البرغوثي، الذي ألمت بوالديه مؤخراً وعكة صحية شديدة، ففضلت ابنته (صفاء) تلقي نتيجة الثانوية العامة بينهم في الأردن لتخفيف ألم غياب والدها عنهم.