"فيضانات الموت"، هكذا عنونت صحيفة "بيلد" اليومية الأكثر قراءة في ألمانيا صفحتها الأولى بعد هطول أمطار غزيرة في مناطق عدة من البلاد، تسببت بخسائر في الأرواح وأضرار مادية جسيمة، عدا عن الرعب بين المواطنين. وما زالت فرق الطوارئ الألمانية تبحث عن مئات الأشخاص المفقودين الذين يتوقع أن عددهم يفوق الألف، بعد أسوأ فيضانات تسببت في مقتل 93 شخصاً على الأقل في غرب البلاد، ليرتفع بذلك العدد الإجمالي للقتلى في أوروبا إلى 108. وتعدّ ولاية شمال الراين وستفاليا (غرب ألمانيا) من أكثر المناطق تضرراً، وبلغ عدد القتلى فيها حتى ظهر أمس 43 قتيلاً.
ما حدث يصفه المسؤولون في ألمانيا بالمأساة. وقالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إن ما شهدته البلاد هو كارثة، بفعل ما سببته الفيضانات من آثار مدمرة على البنية التحتية والمنازل، بعدما ارتفع منسوب المياه في بعض المناطق إلى درجة حوصر سكان الطوابق الأول في بعض المجمعات السكنية، في وقت جرفت عشرات المنازل، الأمر الذي أدى إلى فقدان المئات.
وعلى الرغم من تضرّر عدد من الدول الأوروبية من جراء الفيضانات، تبقى ألمانيا المتضرر الأكبر. وحذّرت السلطات في دول غرب أوروبا، وخصوصاً بلجيكا وألمانيا، مساء أول من أمس، من احتمال استمرار الفيضانات التي سببت سقوط قتلى ومئات المصابين والمفقودين، ودماراً كبيراً في البيوت والمباني، وتوقف القطارات وغرق السيارات. إذاً، وصفت ميركل ما يجري بـ "الكارثة"، وخصوصاً في ولايتي شمال الراين وستفاليا وراينلاند في غرب البلاد، ليس بعيداً عن بلجيكا ولوكسمبورغ اللتين تضررتا كذلك من جراء الفيضانات. وأكدت ميركل أن الفيضانات "كانت كارثة ونحن على تواصل مع عدد من الوزارات في البلاد لضمان بذل كل شيء لمساعدة المتضررين".
وتسبّبت الأمطار الغزيرة المستمرة منذ يوم الأربعاء الماضي، والتي لم تشهدها تلك المناطق منذ سنوات، بفيضان عدد من الأنهار الصغيرة. وغمرت المياه المتدفقة شوارع كاملة وأدت إلى انهيارات أرضية وتدمير بيوت أودت بحياة العشرات وفقدان أثر المئات. وبحسب الشرطة الألمانية، فقد شهدت مقاطعة أرفايلر، الواقعة على بعد نحو 50 كيلومتراً إلى الجنوب من العاصمة الألمانية السابقة بون، وشمال الراين وستفاليا، وكولونيا، وأويسكيرشن وراينباخ، سقوط قتلى.
وفي قرية "شولد" (ولاية شمال الراين وستفاليا)، والتي يقطنها 600 نسمة، انهارت 6 منازل، في وقت تخشى السلطات انهيار 25 عمارة سكنية بسبب المياه. ولجأ بعض السكان إلى السطوح ريثما يتم إجلاؤهم، بعدما أعاقت المياه المتدفقة من جراء الفيضانات عمليات الإنقاذ. في هذه القرية وحدها فُقد نحو 70 شخصاً، علماً أن الرقم إلى ارتفاع.
وتشير الشرطة الألمانية إلى مصرع اثنين من رجال الإطفاء أثناء عمليات الإنقاذ التي واجهت منذ فجر أول من أمس مصاعب كثيرة مع استمرار تدفق المياه التي أغرقت الشوارع بشكل غير مسبوق، الأمر الذي أدى إلى إجلاء كبير للسكان الأكثر عرضة لمخاطر الفيضانات من مدن إيسن وفوبرتال ودوسلدورف. واستخدم رجال الإنقاذ قوارب ومروحيات لإنقاذ أشخاص عالقين على الأشجار وسطوح المنازل، وواجه المحاصرون في البيوت مشكلة في التواصل مع رجال الإطفاء والإبلاغ عن أماكنهم بعد التعطل الجزئي الذي ضرب شبكة الاتصالات في المناطق المتضررة.
وعزلت مياه الأنهار في باد نوينار-آرفايلر أحياء عدة عن العالم الخارجي، وقد غمرت الطوابق السفلية من المجمعات السكنية، كما انقطعت شبكتا الكهرباء والاتصالات. وأرسلت السلطات مروحيات إلى المنطقة لمساعدة الأهالي، وفتحت مراكز صحية كبيرة بعدما باتت البلدة منكوبة. وأجلت السلطات نحو 4 آلاف مواطن. وفي شمال الراين وستفاليا، تستمر التحذيرات من عواصف رعدية مصحوبة بأمطار غزيرة، وطُلب من سكان هاغن (تقع في ولاية شمال الراين وستفاليا) ودورتموند (مدينة مستقلة في شمال الراين-وستفاليا) توخي الحذر بسبب غزارة الأمطار والفيضانات.
إخلاء وإيواء
الوضع الكارثي هذا دفع فريق الأزمات في شمال الراين وستفاليا إلى التحذير مجدداً من مخاطر امتداد الفيضانات، وطلب من البلدات والأقضية "إعداد خطط وإجراءات تضمن حماية المدن، بما في ذلك الإخلاء والإيواء"، وخصوصاً في بيدبورغ، وبرغهايم نوردراين، وستفالن، وكيربن وإرفشتات. ونقلت وسائل إعلامية ألمانية عن مدير الأزمات في شمال الراين وستفاليا، فرانك روك، قوله إنه "لا يمكن تقييم أبعاد الأزمة بعد"، مشيراً إلى المصاعب الكبيرة التي واجهت رجال الإنقاذ بسبب الظروف الجوية الصعبة. وعمد هؤلاء مع عناصر الشرطة إلى مساعدة المدنيين عبر نقلهم إلى مرافق البلديات والتنسيق مع المنظمات والمؤسسات المساعدة، مناشداً في الوقت نفسه المواطنين "إظهار التماسك الاجتماعي والتضامن. هذا أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى. رجاء ساعدوا الأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة".
وحتى يوم أمس، كانت حركة القطارات محدودة للغاية في شمال الراين وستفاليا. ونقل موقع "دويتشه فيله" عن مسؤولين محليين قولهم إن محطات القطارات والمسارات والمفاتيح وتقنيات الإشارة تعرضت لأضرار جسيمة في معظم الولاية. وعليه، توقفت حركة القطارات بين كولونيا ودوسلدورف وإيسن ودورتموند، والخطوط الدولية نحو بروكسل، وفقاً لـ "السكك الحديدية الألمانية".
وتحاول السلطات الألمانية تأمين أحد السدود في المنطقة من خلال ضخ المياه لتخفيف إمكانية انهياره وحدوث كارثة إضافية في غرب البلد. وعلى الرغم من أن الأمطار الغزيرة والفيضانات ليست مفاجئة للألمان، وكانت تضرب مناطق أوروبية شرقية بشكل عنيف وبعض المناطق الألمانية سابقاً، إلا أن أثرها المدمر هذه المرة اختلف كثيراً عن المرات السابقة بسبب الأمطار الرعدية الغزيرة، واستمرار هطولها منذ يوم الأربعاء الماضي، الأمر الذي أدى إلى تدمير مرافق عدة وأصاب أخرى بالشلل، وصعّب مهمة رجال الإطفاء والإنقاذ، وخصوصاً بعد انقطاع وتضرر شبكات الاتصالات في أكثر المناطق تأثراً. وأعلنت الشرطة الألمانية في بلدة شولد حالة الطوارئ، بعدما نالت نصيبها الأكبر من الكارثة. ولم يكن يقطنها أكثر من 600 شخص قبيل الفيضانات، ما أدى إلى تدمير عدد كبير من المنازل فيها. وتظهر الصور التي تنشرها الصحافة الألمانية المنطقة وكأنها دمرت من جراء قصف مدفعي وليس الأمطار والفيضانات. وتفيد الشرطة بأن أعداد القتلى والمفقودين ترتفع مع الوقت، ومع استمرار البلاغات من الأهالي عن فقدان الاتصال بعشرات الأقارب.
وغير بعيد عن الولاية الألمانية، تأثرت بلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا بالعاصفة الماطرة. فسجلت مدينة لييج البلجيكية (شرق بروكسل) مقتل شخصين غرقا ليرتفع عدد القتلى إلى ثمانية، مناشدة السكان المقيمين على ضفاف نهر الميز بإجلاء منازلهم على الفور بسبب خطورة الفيضانات. وحذرت السلطات من ارتفاع منسوب المياه الذي قد يتجاوز المتر ونصف المتر، بحسب ما نقلته الصحافة عن عمدة لييج، كريستن ديفراين. الأخيرة اعتبرت أن "الوضع لم يبلغ ذروته بعد، وما زالت الذروة في الأفق"، بعدما حذرت الأرصاد الجوية من مخاطر الفيضانات المتشكلة، وطُلِب من المواطنين الصعود إلى الطوابق العليا وأخذ بعض الأغذية والمياه معهم. ويعيش نحو 200 ألف نسمة في لييج التي شهدت أضراراً كبيرة.
وفي بلدة تروز، جنوب شرقي لييج، حوصر مواطنون في بيوتهم بعدما غمرت مياه الأمطار شوارعها وقد وصلت إلى الطوابق الأولى من العمارات السكنية. وأصيب السكان بحالة ذعر بعد مشاهدتهم المياه تتدفق ويرتفع منسوبها ليحاصروا في مساكنهم.
وفي لوكسمبورغ، لم يكن الحال أقل سوءاً من بلجيكا لناحية الأضرار المادية على الأقل، حيث جرفت المياه الممتلكات وأغرقت شوارع وسيارات. وفقد أثر فتاة في الخامسة عشرة من عمرها. وفي ليمبورغ الهولندية، ورغم عدم تسجيل وفيات حتى يوم أمس، إلا أن الدمار والأضرار التي تسببت بها الأمطار وارتفاع منسوب المياه لم تختلف كثيراً عن دول الجوار. ووضعت السلطات الفرنسية تسع مناطق شمالية في دائرة المراقبة خوفاً مما تحمله الساعات المقبلة، وسط تحذير من أن الفيضانات يمكن أن تستمر حتى اليوم.
وفي هولندا، وضعت السلطات في مدينة ماسترخيت خططا لإجلاء نحو 10 آلاف مواطن من منازلهم. وناشدت السلطات السكان التجاوب مع خطط إخلاء عدة مجمعات سكنية، خوفاً من تداعيات ارتفاع منسوب نهر الميز ليلاً. وتدخل الجيش الهولندي للمساعدة في تأمين سكان رورموند التي حوصرت مساكنها وأغرقت شوارعها من جراء تدفق المياه.
مساعدات
وتسبّبت الفيضانات بانقطاع التيار الكهربائي في المناطق الأشد تضرراً، واضطرت السلطات إلى إجلاء نحو 500 مريض من مستشفى ليفركوزن في شمال الراين وستفاليا. ووصل إلى المنطقة المنكوبة وزير المالية الألماني، أولاف شولتز، مؤكداً أنه يتوجب على الحكومة الاتحادية تقييم الأضرار وتقديم المساعدات للناس. وتذكّر العواصف والفيضانات بما شهدته البلاد عام 2002، في عهد المستشار السابق غيرهارد شرودر، حين جرفت السيول الطرقات والمنازل ودمرت العديد من القرى. وتشير السلطات إلى أن معرفة الخسائر بشكل دقيق حالياً لن تكون ممكنة، ويتطلب الأمر أياماً قبل تقييم الأضرار بدقة. وطالب رئيس وزراء ولاية شمال الرين ويستفاليا ورئيس الحزب المسيحي الديمقراطي آرمين لاشيت، بمساهمة الدولة الاتحادية في "إعادة الطرقات والجسور والبنية التحتية إلى المسار الصحيح بسرعة كبيرة، الأمر الذي يتطلب جهداً وطنياً كبيراً للتخلص وبسرعة من أسوأ الأمور على عموم البلاد".
بدوره، يطالب الرئيس المشترك لحزب الخضر في ألمانيا، روبرت هابيك، بإنشاء صندوق إغاثة بسرعة، معتبراً أنّ الحالة الطارئة تتجاوز مأساة عام 2013، "وعلينا سريعاً تخصيص الأموال من الميزانية الفيدرالية". بدوره، طالب زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي، نوربرت فالتر-بورغانس، بأن تسارع الحكومة الفيدرالية إلى توضيح كل ما يتعلق بـ "إعادة الإعمار والتعويضات، وخصوصاً بالنسبة لهؤلاء الذين أفقدتهم الكارثة كل شيء". وتأتي ردود الفعل تلك قبل شهرين تقريباً من الانتخابات العامة التي من المقرر أن تشهدها ألمانيا في سبتمبر/ أيلول المقبل.
يشار إلى أن فيضانات 2002 لم تشهد هذا العدد الكبير من الضحايا ومحاولة نهب المتاجر، على غرار ستولبرغ قرب إيكس لاشابيل، بحسب وزير الداخلية هورست زيهوفر، الذي اعتبر أن هذه المأساة هي إحدى "عواقب التغيّر المناخي". وعززت الشرطة من دورياتها على مدار الساعة في المدن التي تعرضت شوارعها الرئيسة للدمار، وخصوصاً تلك التي تضم محال تجارية ومحال مجوهرات وأشياء ثمينة خشية النهب بعد محاولة البعض استغلال الظروف لسرقة محتويات تلك المحال، بحسب صحف ووسائل إعلام ألمانية.
وأعلنت دول أوروبية عدة الاستعداد لتقديم المساعدات، والمشاركة في البحث عن المفقودين وتأمين المساكن وتدعيم أحد السدود المهددة بالانهيار. وأبدت إيطاليا والنمسا والدنمارك استعدادها لتفعيل سريع لاتفاقية الحماية المدنية الأوروبية، لمساعدة الدول المتضررة.
وأوضح عدد من الصحف الألمانية، من بينها "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ"، أن التقديرات تشير إلى أن أعداد المفقودين تتجاوز الألف، مع الإشارة إلى أن انقطاع شبكة الاتصالات جعل البعض عاجزاً عن التأكد من أن أقاربه ما زالوا على قيد الحياة. ويلاحظ أن نسبة كبيرة من الضحايا هي من كبار السن المتقاعدين في منازلهم التي جرفتها السيول. وأجلت السلطات المسنين من بعض دور الرعاية المقامة على شكل بيوت أرضية متلاصقة، خشية على حياتهم.