ضربت العاصفة "دانيال" عدداً كبيراً من القرى الصغيرة والتجمعات والمدن الساحلية شرقي ليبيا في العاشر من سبتمبر/أيلول الحالي، وفي حين يركز الجميع على الفاجعة في مدينة درنة، لا يعرف حجم الأضرار في بقية المناطق والقرى التي تتعرض للإهمال، وتواجه مخاطر صحية وبيئية كبيرة.
تعرضت مدينة درنة للضرر الأكبر بسبب الفيضان الأضخم الناتج عن انهيار سدي الوادي الذي يمر في وسطها، ونالت بالتالي الاهتمام الأكبر، ما أحدث إهمالاً كبيراً لأوضاع بقية المناطق المتضررة، وأبرزها قرى تاكنس والبياضة والوردية وبطة وقصر ليبيا وقندولة والمخيلي والحنية والقبقب ومراوة، ووجه سكان هذه المناطق العديد من الاستغاثات عبر بيانات ومقاطع فيديو قاموا بنشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدين أنهم يعانون من الإهمال، خصوصاً وأن منازلهم ومستشفياتهم ومرافقهم الخدمية انهارت، كما أن بعض الأسر لا تزال عالقة داخل الأودية النائية.
وأظهرت مقاطع فيديو نشرها نشطاء أكواماً من المخلفات الطافية على سطح الماء، أو المتراكمة على شواطئ هذه المناطق، والتي تضم بقايا أشجار وأخشاب وغيرها من الركام الذي نقلته السيول إلى البحر، ووسطها أعداد من جثث الضحايا.
يعد وادي "جرجار أمه" من أكبر الأودية في المسافة الفاصلة بين مدينتي البيضاء والمرج، وبسبب عدم وجود سد في الوادي، تضرر العديد من القرى التي يمر بها، مثل تاكنس والبياضة وقصر ليبيا والحمامة والوردية والجنية والديسة وبطة، وهي مناطق تابعة لبلدية الساحل التي كررت مناشدة السلطات الالتفات إلى الكارثة التي حلت فيها، خصوصاً جرف قرى كاملة، على غرار قرية الوردية، في حين لا تزال العشرات من الجثث تحت الركام في شعاب وادي "جرجار أمه".
وتناقل نشطاء مقطع فيديو يظهر اندلاع النيران في مخلفات السيول على شاطئ قرية الحمامة، ومحاولات إخمادها بإمكانيات بدائية، وفي الفيديو، أشار أحد الأهالي إلى احتراق جثث لفظها البحر إلى الشاطئ، وأكد رصد أكثر من 13 جثة وسط المخلفات الطافية فوق الماء بالقرب من مكان الحريق.
تركيز الاهتمام على درنة خلّف إهمالاً لبقية المناطق المتضررة
في أولى بوادر الاهتمام الرسمي، قام الهلال الأحمر الليبي، الخميس، بإحصاء أولي لأعداد المتضررين من السيول والفيضانات في مدينة البيضاء، وقدر أن عددهم 350 عائلة. لكنه اكتفى بالإحصاء من دون أي خطة لتقديم المساعدات الإنسانية أو الخدمات الطبية.
ولم تكشف السلطات عن أية أرقام للضحايا في بقية المناطق المتضررة، باستثناء تصريح للمتحدث باسم قيادة حفتر، أحمد المسماري، الثلاثاء الماضي، أفاد فيه بأن جهود الإنقاذ في مدينة البيضاء وبعض قراها أسفرت عن انتشال 109 جثث.
يقول أنس أبو شعراية، وهو أحد المتطوعين في البيضاء، لـ"العربي الجديد"، إن "فرق الهيئة العامة للسلامة الوطنية عادت إلى العاصمة طرابلس بعدما أنهت أعمالها في درنة، من دون حتى المرور على أي من المناطق والقرى الأخرى المتضررة، ولم تبد أي محاولة لدعم الأهالي، خصوصاً في السياق البيئي. جثث كثيرة لا تزال مبعثرة على شواطئ قرى ومناطق الساحل، أو عالقة تحت ركام المنازل، وفي شعاب الأدوية، والبلاغات عن المفقودين كثيرة، لكن لا يوجد إحصاء، وسكان هذه المناطق تقطعت بهم السبل بسبب انفصالها عن بعضها بعد جرف السيول للطرق".
يتابع المتطوع الليبي: "تقطع الطرقات، والجغرافية الجبلية، وصعوبة التنقل داخل الأدوية والشعاب الوعرة، كلها تشكل عوامل تعيق الجهود، وهناك عوائل تعيش على ضفاف الأودية، ولا نعلم عن أفرادها أي شيء، فالكهرباء مقطوعة، ولا يمكن الاتصال بهم، وهم في خطر حقيقي، وبالإضافة إلى غياب فرق الهلال الأحمر وفرق هيئة السلامة الوطنية، تغيب أيضاً فرق المركز الوطني لمكافحة الأمراض، والذي يهتم بالوضع الصحي في درنة، بينما كل بياناته لم تأت على ذكر أوضاع القرى والمناطق الأخرى".
يضيف أبو شعراية: "تحتاج مناطقنا وقرانا إلى اهتمام عاجل بالأوضاع الصحية فيها، وحملات تطعيم للوقاية من تفشي الأوبئة بين السكان، فالقرى والمناطق الجبلية تتكدس فيها أكوام من الحيوانات النافقة التي جرفتها السيول، ومع الإهمال الحكومي، خصوصاً في انتشال الجثث، شكل الأهالي فرقاً تطوعية، وتمكنوا من انتشال أعداد كبيرة من الجثث، ودفنوها".
سكان المناطق المتضررة في ليبيا تقطعت بهم السبل بعد جرف السيول للطرق
بدوره، يطالب الأستاذ بجامعة العرب الطبية في بنغازي، عبد العاطي أكويدير، بضرورة إعطاء اللقاحات اللازمة للمتطوعين في المناطق المتضررة، خصوصاً من يتعاملون بشكل مباشر مع الجثث، ومعظمهم يعملون من دون وسائل الوقاية الضرورية، ما قد يتسبب في إصابتهم بالعديد من الأمراض. ويضيف لـ"العربي الجديد": "يجب توسيع حملات التلقيح لتطويق تفشي الأمراض، لأن دفء الطقس يعجل بتحلل الجثث، ما يزيد من المخاطر. وهناك جانب آخر يتعلق بالصحة النفسية، فالكارثة خلفت آثاراً نفسية كبيرة".
من العاصمة طرابلس، وجّه رئيس لجنة إدارة الأزمة المكلف من حكومة الوحدة الوطنية، السمير كوكو، الخميس، كتاباً إلى مديري المستشفيات والمراكز الطبية والتخصصية والعيادات والمراكز الصحية بشأن الالتزام بتطبيق حزمة التدابير والإرشادات التي من شأنها الحد من مخاطر انتقال العدوى بالمرافق الصحية. تضمنت التدابير كيفية التعامل الآمن مع الجثث، واستعادة أنظمة المياه داخل مرافق الرعاية الصحية.
لكن أكويدير يؤكد أن "أغلب المراكز الصحية في قرى ومناطق الجبل الأخضر متوقفة عن العمل، وما كان يقدم بعض الخدمات في السابق دمرته السيول. السلطات تتعامل مع الأزمة بطريقة يشوبها التعاطي السياسي، وتحول درنة إلى مثار اهتمام العالم جعل التركيز ينصب عليها وحدها، مع تجاهل بقية المناطق المنكوبة التي يواجه سكانها صعوبات تهدد حياتهم".
ويستشهد بما أظهرته فيديوهات متداولة حول تعرض عناصر الإنقاذ المتطوعين في درنة لأمراض، ما اضطر وزير الصحة في حكومة مجلس النواب، عثمان عبد الجليل، إلى الإقرار بأن بعض المتطوعين تعرضوا لحالات تسمم من جراء التلوث الناجم عن تحلل الجثث، ويقول: "إذا كانت هذه أوضاع متطوعي درنة، فلا شك أن الظروف التي يعمل فيها المتطوعون بالقرى والمناطق المنكوبة الأخرى أسوأ".
من بنغازي، يلفت الناشط طارق أبو شناف، إلى إعلان رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، الخميس، وجود 197 فرداً تابعاً لفرق المركز الوطني لمكافحة الأمراض في درنة، إلى جانب أفراد من بقية فروع المركز في المنطقة الشرقية. وأوضح لـ"العربي الجديد": "الحديث عن وجود فروع للمركز في المنطقة الشرقية عجيب، فأين توجد تلك الفروع؟ وإن وجدت، أليس من الأولى أن تواجه تداعيات السيول في مناطقها؟ هذه التصريحات جزء من تسييس النكبة، وعلى سكان المناطق المتضررة إيصال أصواتهم إلى المجتمع الدولي حتى يتخلصوا من المزايدات السياسية بين السلطات".
ولا تزال التداعيات النفسية للكارثة من دون تدخل حقيقي، رغم اللجان التي تم تشكيلها من الحكومتين، إذ قالت حكومة طرابلس إنها بدأت إرسال أخصائيين نفسيين واجتماعيين لتقديم الدعم لأسر الضحايا، فيما أصدر وزير الصحة بحكومة مجلس النواب قراراً بتشكيل لجنة للدعم النفسي لسكان المناطق المتضررة.
ويقول أبو شناف: "ينبغي حصر المتضررين، ومعرفة مناطق وجودهم أولاً قبل ادعاء الاهتمام بوضعهم النفسي والاجتماعي، وعلى أرض الواقع، ليست هناك أية زيارات ميدانية لتنفيذ هذه التصريحات، فهناك أطفال فقدوا أسرهم تستضيفهم مؤسسة أهلية في البيضاء، ولم يقم أي مسؤول حكومي بزيارتهم، أو متابعة أوضاعهم".
ويعاني كثير من الناجين الذين فقدوا أسرهم من آثار سلبية عميقة، وأظهر مقطع فيديو متداول، سيدة لا تبارح الشاطئ لعل البحر يقذف جثمان أي من أفراد أسرتها، وفي مقطع آخر، يجلس رب أسرة في مكان بيته الذي جرفته السيول بينما كانت أسرته بالكامل في داخله، ليبكي على زوجته وأبنائه الأربعة، بينما تقف إحدى النساء عند بيت شقيقها الذي قضى مع زوجته وأبنائه تحت الأنقاض.
وفي استمرار للدور التطوعي، أعلن عدد من أطباء مستشفى الرازي للأمراض النفسية في طرابلس، رغبتهم في افتتاح عيادة للطب النفسي داخل مدينة درنة، وتسيير قافلة طبية تضم أدوية وأخصائيين صحيين واجتماعيين وأطباء وكوادر تمريض.