أجزم أنها كانت قرى بيئية بكامل المواصفات وكل جوانب الاستدامة لولا التدخلات الحضرية، وما طرأ من تغيرات مناخية لاحقاً غيّبت جلّ المعالم التي كانت عليها حتى ستينيات القرن الماضي.
تعرّف الدكتورة أمينة التيتون القرى البيئية (الإيكولوجية) بأنها "مجموعة من الناس أو المجتمعات الصغيرة المختلفة الأعداد - بين عشرات وآلاف - تحاول حل المشكلات البيئية والاجتماعية عبر اتباع أسلوب حياة مستدام، خفيف الوطأة على الأرض والناس".
وكان المصطلح، وفقاً للدكتور مجدي سعيد ظهر عام 1996 ضمن قائمة الأمم المتحدة لأفضل الممارسات، ووصف القرى البيئية بأنها "نماذج ممتازة للعيش المستدام"، حيث يشعر الناس بدعم ومسؤولية تجاه محيطهم ومن حولهم، ويعمّ الشعور العميق بالأمان والانتماء للمجموعة، ويتشاركون الموارد بينهم، وكذلك القرارات التي تؤثر في حياتهم.
وكان ذلك قائماً في قريتي بشمال السودان، حيث البيوت البيئية المنشأة من طين وفروع الأشجار، الدافئة شتاء والباردة صيفاً، والمحاطة بأشجار الأكاشيا والطندب وبعض الشجيرات، وغابة صغيرة تفصلها عن الحوض الفيضي الذي يشكّل موئلاً مستداماً للطيور المهاجرة والمحلية، وتزرع بمحاصيل استهلاكية عند نزول الماء، باستخدام نقود قليلة تساهم في توفير مستلزمات حياة بسيطة من كساء ودواء وأخرى. وكانت الغابة تجود باحتياجات الناس من الوقود وأخشاب البناء والمنتجات غير الخشبية التي تدخل في دائرة التداوي البلدي، وعلف الحيوانات. ويمكن القول إن "قريتي شكلت نموذجاً واقعياً لشرح الخبير مجدي أن هذه القرى تتضمن الأبعاد البيئية التي تعكس علاقة الإنسان بالتربة والمياه والنبات والحيوان، وبالموارد التي تلبي احتياجاته من غذاء وكساء ومأوى، وتحافظ على التنوّع الإحيائي".
هذا نمط حياة عميق في بساطته، ويتشارك فيه الإنسان الرقيق حال العيش مع حيوانات وهبها الخالق قدرة العطاء المزدوج. فالأبقار تمنح اللبن واللحم، وتحرث الأرض، وتحرك دواليب السواقي لري المزارع. كما تمنح العائد المادي عبر بيع مواليدها، وهو حال الأغنام. أما الحمير فتنقل البشر وتحمل الأثقال وتشارك في عمليات زراعية كثيرة. وتتكفل الطيور الداجنة وسواها بتوفير ما يؤكل من بيض ولحم، وتساهم في تخليص البيئة من مخلفات كثيرة وحشرات طائرة وزاحفة، وتحمي أصحاب الدار من لسعات العقارب والثعابين.
وتكتمل الصورة بالتعايش والتمازج والانصهار، حتى تحس أن بيوت القرية كلها بيتك، وأنه يجب أن تظهر الوقار لكل من يكبرك سناً، وتتعلم منه، وتتأدب في حضوره.
أليس هذا هو العيش المستدام الذي ينادى به، والذي يجبب أن تدعمه حكومات، كما فعلت السنغال التي ساندت حكومتها تحويل مئات من القرى التقليدية إلى قرى إيكولوجية في إطار الحراك العالمي. وهل تنعم ما تبقى من قرى تقليدية لدينا بهذه الخدمات؟
(متخصص في شؤون البيئة)