يذكر الأتراك جيداً الحوادث التي شهدها قصر "يلدز" من سرقات وحرق، وتحويله إلى كازينو للقمار، بعدما استثمره القطاع الخاص عام 1926، بعد تأسيس مصطفى كمال أتارتوك الجمهورية، وكذلك وضعه مجدداً على سكة التاريخ العريق بعد تولي الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان منصب رئيس الوزراء عام 2003، حين أعاد ترميمه واستخدمه لدى استقباله ضيوفاً أجانب كباراً، بينهم المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل والملك الأردني عبد الله الثاني وأمير قطر تميم بن حمد.
ويذكر متابعون للشأن التركي ردود الفعل التي أطلقها معارضون لدى تدشين الرئيس التركي أردوغان جامع "يلدز" عام 2017، حين احتجوا عبر مسيرات في الشوارع ضد ما وصفوه بأنه "محاولة منه لاسترجاع تاريخ السلطنة العثمانية"، فرد مستشار الرئاسة مصطفى وارنك قائلاً: "جرى تحويل قصر يلدز إلى كازينو سابقاً، ثم بات يستقبل زعماء العالم حالياً. لماذا لا يعجب هذا الأمر البعض؟".
فعلياً، يسرق قصر "تشانكايا" في أنقرة، المعروف باسم "القصر الأبيض"، الذي دشنه أردوغان عام 2014 بكلفة 600 مليون دولار، وقصر "دولما بهشة" بإسطنبول، الضوء من "يلدز" (النجمة) الذي أهداه السلطان سليم الثالث يوماً لوالدته السلطانة مهري شه، رغم أنه كان استعاد بعض أمجاده عبر استقبال زعماء دول وعقدِ أردوغان لقاءات فيه، كما حدث حين استقبل صحافيين قبل خمسة أعوام.
ولولا أنه يستضيف حالياً معرضاً لصور تاريخ الأردن، وكشف بعض كنوزه العام الماضي، لاستمر تغييب التحفة المعمارية لقصر "يلدز" التي بناها العثمانيون نهاية القرن التاسع عشر، واتخذه السلطان عبد الحميد الثاني بدلاً من قصر "دولما بهشة" مقراً لحكم السلطنة.
وقد أعاد الاحتفال بمئوية تأسيس الأردن قصر "يلدز" ومكتبته إلى الواجهة، إذ عرضت فيه 50 صورة عن الأردن تضمنتها مكتبة القصر التي تحتوي نحو 150 مليون وثيقة عن المنطقة العربية وتاريخها، و400 ألف مخطوطة مكتوبة بلغات مختلفة، موضوعة على رفوف بطول 5 آلاف متر.
في الذاكرة
ويشرح الدليل السياحي في متحف تشورا بمنطقة الفاتح في إسطنبول سردار دونميز، لـ"العربي الجديد"، أن قصر "يلدز" يتمتع بخصوصية كبيرة وأهمية تفوق باقي القصور، ليس فقط لاعتباره المقر الأخير لحكم العثمانيين بعد قصر "توب كابي" وقصر "دولما بهشة"، بل لأنه واجه تحولات ومحاولات تشويه بعد زوال الدولة العثمانية، ما زالت ذكراها محفوظة في ذهن الأتراك.
غاب قصر "يلدز" عن الذكر بالكامل بعدما غادره آخر السلاطين العثمانيين وحيد الدين عام 1922، وألغى أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، الخلافة الإسلامية وأنشأ الدولة العلمانية. وجرى تقسيم القصر بحسب وظائف من يستخدمه، فخصص جزء منه للدوائر العسكرية، وآخر لمؤسسات وشركات افتتحت إحداها نادياً للقمار فيه عام 1926.
لكن القصر احتفظ بتحفه الفنية، وبينها لوحات رسمها السلطان عبد الحميد، وأرشيف ووثائق وقعها السلاطين محمد الفاتح وعثمان الثاني ومحمود الأول، وصور للتاريخ الغني للمنطقة التي حكمتها الدولة العثمانية.
ويرى دونميز أن استعادة السلطات قصر "يلدز" كان مهمة معنوية بالدرجة الأولى، فهو يستضيف اليوم مراسم رئاسية قليلة ويعتبر أقرب إلى متحف وأيقونة عثمانية، بعدما وفرت مقتنياته، خصوصاً الكراسي، عودة إلى طقوس السلطنة ما قبل عشرينيات القرن الماضي.
محطات
يعود تاريخ بناء القصر، الواقع بين مناطق بشيكتاش وأورتا كوي وبالمومجو، إلى عام 1790. ويُقال إن السلطان سليم الثالث قدمه هدية إلى والدته السلطانة مهري شه، قبل أن يهتم عهد السلطان عبد الحميد الثاني بتوسيعه للمرة الأولى عام 1890، حين اتخذه مقراً لحكمه، ثم أنجز المعماري الإيطالي دارانجو المرحلة الثانية من عملية توسيعه لاستقبال القيصر، إمبراطور ألمانيا، وليام الثاني.
وشيّد قصر "يلدز" على ثلاث مراحل ضمن حديقة مترامية الأطراف. وشهدت المرحلة الأولى بناء "كشك يلدز"، أي المبنى المسيّج بجدران عالية، والثانية توسيع الكشك إلى قصر، فيما شملت الثالثة بناء منشآت وصالات وأجنحة وغرف خاصة بأفراد الطبقة الحاكمة، وهم السلطان والأمراء والأميرات، وأخرى للخدم وعدد من الحدائق إضافة إلى إسطبلات خيل.
ورغم أن العثمانيين اتخذوا قصر "يلدز" لعقود مقراً أساسياً للحكومة والسلطان بدلاً من قصر دولما بهشة، خبا نجمه في استقبال الضيوف ليحتفظ فقط بقيمته التاريخية. وهو يقسم إلى جزئين يعكسان التقاليد العثمانية، أولهما للرجال والثاني للنساء، في حين تمتد شهرة صالة الاحتفالات، التي تتجاوز مساحتها 400 متر مربع، حتى اليوم. وقد أحيا ترميم موجودات في القصر، بينها أثاث فخم وأثري وصالة الطعام المعروفة باسم "الصالة الصدفية"، مرحلة تاريخية للدولة العثمانية، يلاحظها السياح الذين يقصدون أجزاء مفتوحة اليوم. كما أعاد افتتاح جامع "يلدز" قبل سنوات تواصل الأتراك مع ماضيهم، فهو المكان الذي سجد فيه السلطان عبد الحميد الثاني، وسميّ "يلدز الحميدية" نسبة لذلك، علماً أنه كان أمر ببنائه عام 1880، ليحظى بفخامة وجمال من خلال أبوابه المزخرفة بالذهب، كما لو أنه قصر ضمن قصر.
الجامع
ويأخذ جامع "يلدز" شكل المستطيل، ويحتوي على مئذنة واحدة مزينة بزخرفة عثمانية تقليدية. والملفت فيه قبته المثبتة على أربعة أعمدة حديدية سميكة، والمزينة بنجوم منقوشة على أرضية زرقاء. وهو يحتوي على 16 نافذة تضيف لمسة جمال عليه إلى جانب السلالم التي تلفه من جهتين، كما يضم غرفة للسفراء وأخرى لطالبي العلم وللعبادة، وربما للاسترخاء.
وعموماً، تعكس قصور السلاطين العثمانيين ومظاهر الترف فيها أنماط الحكم وطبيعة الحكام، وربما شهرة ودلالات تتعدى أيضاً الغنى والسطوة إلى التطور الذي ساد حينها. ففي قصر "توب كابي"، مركز حكم الدولة العثمانية خلال 4 قرون، أسرار "الباب العالي" وكنوز السلطنة الأغلى، وفي قصر "دولما بهشه" ملامح الإعجاز والفخامة. ويتضمن قصر إلهامور وقصر كوتشوك سو وقصر الخديوي ميزات أخرى، لكن قصر "يلدز" لا يزال يحتكر الشهرة الأكبر خارجياً.