استمع إلى الملخص
- **حالة النازحين في المواصي**: يعيش عشرات الآلاف من النازحين في رعب دائم، يعانون من الجوع والعطش وانعدام الخدمات الأساسية، حيث لا يوجد مكان آمن لنقل خيامهم.
- **استهداف متعمد لفرق الإنقاذ والناجين**: وثقت كاميرات النازحين استهداف الاحتلال لسيارات الدفاع المدني، مما أدى إلى مخاوف كبيرة لدى سكان المنطقة الشمالية من القطاع.
كشفت المجزرة الإسرائيلية الأخيرة على منطقة المواصي في خانيونس عن أن هناك خطة استهداف ممنهجة يستخدم فيها جيش الاحتلال الطائرات الحربية لقصف ما يوصف بأنه "مناطق آمنة"، وبينما يكرر الاحتلال أنه استهدف شخصيات قيادية في المقاومة بالمنطقة التي تضم تجمعاً كبيراً لخيام النازحين، تبين أن جميع الضحايا من المدنيين، ومن بينهم أطفال ونساء.
كانت المجزرة الأخيرة شديدة البشاعة، إذ استهدفت طوابير لنازحين كانوا ينتظرون الحصول على المياه، ثم استهدفت طواقم الدفاع المدني التي كانت تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، رغم أنهم كانوا يرتدون زيهم الرسمي، ودمرت مركباتهم.
وارتفعت حصيلة الشهداء في مجزرة المواصي إلى نحو 90 شهيداً، نصفهم من الأطفال والنساء، فضلاً عن نحو 300 إصابة، من بينهم قرابة 140 من الأطفال والنساء، والعديد منهم إصاباته حرجة، بينما القطاع الصحي منهار في قطاع غزة.
وتحولت المواصي إلى أكبر تجمع للنازحين في القطاع، ويعيش عشرات الآلاف فيها في رعب دائم، فضلاً عن الجوع والعطش، وانعدام الخدمات الأساسية، وهم يتابعون من على شاطئ البحر حركة البوارج الحربية التي يمكن مشاهدتها بالعين المجردة، كما تكثف طائرات الاستطلاع الإسرائيلية وجودها في سماء المنطقة، ويلاحظ وجودها في الوقت الحالي أكثر من أي وقتٍ مضى.
تحولت منطقة المواصي إلى أكبر تجمع للنازحين في قطاع غزة
ومنذ وقوع المجزرة، أصبح الكثير من النازحين مستسلمين لواقع انتظار الشهادة في أي وقت. من بين هؤلاء النازح محمد مهنا، وقد أصيب في القصف، لكن إصابته متوسطة، وعُولِج في النقطة الطبية الموجودة في المنطقة، وعاد إلى خيمته التي تبعد بضعة مئات من الأمتار عن مكان القصف، وقد قرر نقل الخيمة، لكنه لم يجد مكاناً لنقلها إليه، خصوصاً أنه لا يوجد مكان آمن بالمطلق.
خسر مهنا عدداً من أفراد عائلته خلال الأسبوع الماضي، وهم أشخاص قرروا البقاء في المنطقة الشمالية، وهو يشعر بندم كبير على مغادرة مدينة غزة، رغم سياسة التجويع والتعطيش التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على السكان، إذ لا يزال جيش الاحتلال يعتبر المنطقة الشمالية منطقة قتال، ويمنع العودة إليها.
يقول مهنا لـ"العربي الجديد": "أعيش في حالة استسلام للواقع، وأترقب صوت أي قصف إسرائيلي لأخرج سريعاً من الخيمة. أصبت في المجزرة، وجميع المصابين من المدنيين، وكنا ننتظر الحصول على المياه في ظل قلة عدد نقاط توزيع المياه في المنطقة. الانفجار كان ضخماً، والرمال التي أثارها وصلت إلى عشرات الخيام المجاورة، وبعض المصابين استشهدوا بسبب دفنهم تحت كميات كبيرة من الرمال التي أدت إلى اختناقهم، والبعض الآخر أنقذهم الناس عندما أزاحوا الرمال عنهم".
يضيف: "لدي ثلاثة أبناء أكبرهم فتاة مراهقة، ونحن محاصرون من كل الجهات، ونعيش في الكذبة الإسرائيلية التي تزعم أن المواصي من بين المناطق الآمنة، لكننا لا نعرف إلى أين نذهب، وأشعر بالندم لأنني غادرت مدينة غزة، فالموت الذي كان يطاردنا هنا قائم هنا أيضاً، ويبدو أن الشهادة باتت أمراً حتمياً، فجميع الدول خذلتنا، وقام الاحتلال بحشرنا هنا حتى يروج حججاً وهمية، أو يسجل انتصارات نفسية على حساب أرواح الأبرياء".
ناجون من مجزرة مخيم البركسات كانوا من بين شهداء المواصي
ووثقت كاميرات النازحين استهداف الاحتلال لسيارات الدفاع المدني التي كانت متوقفة في أحد الطرق الرملية المؤدية إلى مكان المجزرة، ما يدلل على تعمد الاحتلال إعاقة أي وسيلة إنقاذ أو إغاثة للضحايا. كان محمد مهنا من بين أول دفعة تم نقلها من المصابين، ثم كان شاهداً على الاستهداف المباشر والمقصود لعناصر الدفاع المدني ومركباته.
وراح ضمن ضحايا القصف الأخير لتجمع النازحين عدد من الناجين من المجزرة الإسرائيلية التي وقعت في مخيم البركسات، شمال غربي مدينة رفح، وكان من بينهم اثنان من المصابين بحروق، واللذان كانا يتلقيان علاجاً لا يتجاوز بعض الأدوية المسكنة ومراهم، وهما محمد النجار وعبد الله حماد.
ويؤكد صديقهما زهدي بركة (30 سنة)، أنه تمكن من العثور على جثماني صديقيه اللذين كانا يحاولان الهرب من حرارة الصيف داخل الخيام، كونهما مصابين بحروق من الدرجة الثانية في مناطق عدة من الجسم. نجا بركة من القصف لأنه كان يوجد حينها في خيمة أسرته، والتي لا تبعد سوى بضعة مئات من الأمتار عن مكان وجودهم، وتمكن من انتشال الجثمانين من تحت الرمال بعد نحو 4 ساعات من البحث.
يقول بركة لـ"العربي الجديد": "كان الناس متجمعين من أجل الحصول على المياه، بينما كان الشهيدان محمد وعبد الله في المكان ضمن محاولاتهما المستمرة للهرب من شدة الحرارة، فقد كانا يواجهان التهابات في حروقهما بسبب الحر وانتشار الحشرات، وكذلك لعدم توفر العلاج المناسب، وكثيراً ما كنا نحاول الحصول على أدوية لهما، لكننا كنا نفشل مع تقلص دخول الأدوية إلى القطاع. كنت ألازمهما دائماً، لكني كنت في وقت القصف منشغلاً بتدبير احتياجات أسرتي من الطعام والشراب".
يضيف: "المناطق الآمنة كذبة كبيرة، والجميع يعلم أنها كذبة، ونعرف أن الاحتلال يمكن أن يرتكب مجزرة بحقنا في أي وقت، لكن ما يحزنني أن محمد وعبد الله كانا يأملان أن تنتهي الحرب قريباً، وكانا يواسيان أنفسهما رغم شدة الآلام بأنه حال إتمام صفقة أو هدنة توقف الحرب، سيمكنهما السفر للعلاج خارج القطاع، لكنهما هما استشهدا بعد عذاب طويل، بينما أنا محبط، ولا أملك أي أمل في المستقبل".
وفي 24 مايو/أيار الماضي، قصف جيش الاحتلال خيام النازحين في منطقة المواصي، كما خلف شهداء وجرحى، وسبّب تدمير عشرات الخيام. وفي 27 مايو الماضي، ارتكب جيش الاحتلال مجزرة مخيم البركسات في وقت كان يزعم فيه أن المنطقة الغربية الشمالية من مدينة رفح تصنف باعتبارها "منطقة آمنة"، وضمن المناطق التي يطلب من النازحين التوجه إليها والبقاء فيها. كما ارتكب مجزرة أخرى بحق النازحين إلى مبنى وزارة التنمية الاجتماعية في 24 مايو، بينما كان يعتبر منطقة وسط دير البلح "منطقة آمنة" ووصل الاستهداف إلى محيط مستشفى شهداء الأقصى الموجود على حدود شارع صلاح الدين، وهي المنطقة الأخيرة ضمن المنطقة الآمنة.
والشهر الماضي، ارتكب جيش الاحتلال مجزرة كبيرة في مخيم النصيرات طاولت منطقة السوق الذي يقع على أطراف المنطقة الآمنة، وراح ضحية تلك المجزرة نحو 274 شهيداً فضلاً عن مئات من الجرحى. كما قصف الاحتلال في منتصف شهر يونيو/حزيران الماضي، خيام النازحين في منطقة قريبة من قرية الزوايدة المطلة على شاطئ البحر المتوسط.
وأدى تكرار القصف الإسرائيلي لما يصفه بأنه "مناطق آمنة" إلى مخاوف كبيرة لدى سكان المنطقة الشمالية من القطاع، والذين بات الكثيرون منهم يرفضون النزوح نحو جنوبي القطاع، ويصرون على البقاء في الشمال رغم التهديدات الإسرائيلية المتواصلة، وتكرار أوامر إخلاء المنطقة المصنفة بالكامل باعتبارها منطقة قتال.
لا تزال عائلة محمد صيام تشعر بالندم لترك منزلها في المنطقة الشمالية، والنزوح جنوباً إلى مدينة دير البلح، والتي فقدوا فيها خمسة من أفراد العائلة، ويعتبر صيام أن "المناطق الآمنة هي بالتأكيد غير آمنة، ولا شك لدينا أن الاحتلال يسعى لقتلنا في كل مكان، وهو يروج أسباباً واهية ومفضوحة لاستهداف المدنيين الفلسطينيين، وقتل أكبر عدد منهم، وهذا دفعني إلى النزوح إلى منطقة مواجهة لشاطئ البحر".
ويقول لـ"العربي الجديد": "لا مكان نذهب إليه، فالبحر من أمامي والموت من خلفي، ولست أخشى من فقدان حياتي بقدر خشيتي من خسارة أبنائي. لا يوجد في قطاع غزة كله أي منطقة آمنة، والمجتمع الدولي الذي لا يزال يكرر خلف الاحتلال هذه الكذبة متورط في قتلنا. أنا أسميها مناطق الرعب، أو مناطق الموت البطيء. وقد استشهد عمي مع أبنائه عندما نزحوا إلى إحدى هذه المناطق، وقد كان يكرر قبل استشهاده أنه لا يريد الموت، ويريد أن يكبّر أبناءه أمام عينيه، لكن الاحتلال قتلهم جميعاً".