في الأسبوع الثاني من العزل الصحيّ الجديد الذي أعلن عنه في فرنسا مع نهاية الشهر الماضي، بهدف الحدّ من انتشار فيروس كورونا، ما زال الارتفاع الكبير في عدد المصابين بالفيروس مستمراً، إذ تسجل عشرات الآلاف من الإصابات يومياً. وتسجّل فرنسا أكبر عدد من الإصابات في أوروبا على الصعيد اليومي وعلى صعيد مجمل الإصابات التي وصل عددها إلى نحو مليون و860 ألف، أمس الأربعاء، في المركز الرابع عالمياً، بعد الولايات المتحدة والهند والبرازيل. وللمقارنة، فإنّ ألمانيا، التي يفوق عدد سكانها عددَ سكان فرنسا بنحو 15 مليون نسمة، سجّلت، يوم الجمعة الماضي، نحو 21 ألف إصابة، يوم سجلت فرنسا أكثر من 60 ألف إصابة، كما يبلغ مجمل الإصابات في ألمانيا نحو 710 آلاف إصابة.
ثلاثة أشهر ونصف هي المدة التي تفصل بين إعلان وزير الصحة الفرنسي أوليفييه فيران، في العاشر من يوليو/ تموز الماضي، أنّ البلاد "جاهزة لمنع موجة ثانية" من وباء كورونا، وبين اعتراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل أيام، بأنّ موجة "التسارع المفاجئ" للوباء "أغرقت" بلاده. وإذا كانت استعارة "الغرق" التي استخدمها ماكرون دقيقة، إذ تقترب المستشفيات وأقسام الإنعاش من الوصول إلى طاقتها الاستيعابية القصوى، ما قد يعني اضطرار الأطباء للتفضيل بين مريض وآخر بسبب قلة الأسرّة والفرق الطبية المتاحة، فإنّ وصفه لتطوّر الوباء بالـ"مفاجئ" أثار استغراب العديد من المسؤولين الطبّيّين، إذ إنّ "المجلس العلمي" الذي من شأنه تقديم النصح للرئيس والحكومة لمواجهة الأزمة الصحية، يكرّر منذ أسابيع تحذيره من خطورة الموجة الوبائية الخريفية ودعوته لضرورة التحضير لها، لأنّ "تأثيرها قد يكون أكبر من الموجة الأولى" التي ألمّت بالبلاد في الربيع الماضي، بحسب تقرير للمجلس يعود ليوليو/ تموز الماضي. وفي أيّ حال، فإنّ لجوء ماكرون إلى "التفاجؤ" لا يزيح، فحسب، جزءاً من المسؤولية عن كاهل الحكومة، بل يساعد أيضاً في تمرير قرار العزل الجديد، الذي لطالما ردّدت حكومته نيّتها بتجنّبه في الأسابيع الماضية.
يصف عضو الأكاديمية الطبية الفرنسية، جيرار دوبوا، قرار العزل هذا بأنّه "جاء متأخراً" أياماً وحتى أسابيع بعد اتضاح المسار المتضاعف للإصابات. ويضيف، في حديث إلى "العربي الجديد": "العزل الذي نعيشه اليوم أخفّ بكثير من ذلك الذي عرفناه خلال الربيع الماضي: الشوارع ممتلئة بالناس، والطلاب مكدّسون في الصفوف بما يمنع تطبيق معاير الوقاية من تفشي الفيروس. خفّة العزل هذه تعني أنّ علينا أن ننتظر أكثر مما انتظرنا خلال الربيع لقطف ثماره الأولى. لا شكّ أنّ انحسار هذه الموجة الوبائية سيكون أكثر بطئاً وتدرّجاً مما عرفناه قبل عدة أشهر، وقد يكون عدد المصابين الذين يجري استقبالهم في غرف الإنعاش والضحايا أكبر أيضاً".
وبالرغم من تأكيده على تفهّمَ قرار عزلٍ "مخفّف" ولموقف الحكومة "المطالَبة بإيجاد توازن بين الضرورات الاقتصادية وضرورة إيقاف الوباء"، لا يخفي البروفسور دوبوا انتقاده لسياسة الكشف عن الإصابة بالفيروس التي تتّبعها السلطات، والتي تعطي الأولوية لفحص البؤر التي تتركّز فيها العدوى والأشخاص المقرّبين أو الذين احتكّوا عن قرب مع مَن تأكدت إصابتهم: "كانت هذه السياسة تساعد في كشف 20 في المائة من المصابين قبل أشهر.
من المهمّ ألّا يموت المرء بسبب الفيروس، على ألّا يموت اجتماعياً ونفسياً أيضاً
أما اليوم، فقد انخفضت هذه النسبة إلى 10 في المائة، أي أنّنا ننفق كثيراً من الوقت والمجهود والمال للكشف، في نهاية الأمر، عن عدد قليل جداً من الإصابات التي يجب الكشف عنها. ما اقترحته مراراً، مع عدد من الزملاء، هو فحص جميع الفرنسيين في وقت واحد، ومن دون صرف مبالغ إضافية أو مجهود إضافي: الفحوص الجماعية تسمح بذلك. البلدان التي تقوم بسياسة فحص شاملة هي الأكثر تمكّناً من وقف انتشار الوباء. الصين أعطت مثالاً على ذلك، واليوم سلوفاكيا تقوم بالأمر نفسه". يضيف: "يفاخر البعض بأنّ عدد الفحوص الأسبوعية ناهز مليونين في الفترة الأخيرة، معتقدين أنّ ارتفاع معدّل الإصابات نتيجة طبيعية لذلك. الواقع أنّ الأمر مخالف تماماً، فما يجري حالياً هو تشخيص الإصابة بالفيروس لدى أشخاص نعتقد أو نعرف أنّهم مصابون، وليس الكشف عن العدد الأكبر من المصابين. لو كنا نفكّر بمنطق الكشف عن المصابين لانخفض معدل الإصابات سريعاً إلى 1 في المائة أو 2 في المائة من السكان".
ليس حديث البروفسور دوبوا عن امتلاء الشوارع بالناس، بالرغم من التعليمات، غريباً على معظم الفرنسيين. ويلاحظ أنّ الخروج إلى الأماكن العامة وممارسة نشاطات اعتيادية لا يقتصر على الموظفين والتلاميذ الحاصلين على إذن بالخروج يومياً، ولا على أقلية من الفرنسيين ترفض فكرة العزل من أساسها، بل يشمل، في ما يبدو، العديد من الشرائح الاجتماعية والعمرية، بما فيها تلك التي تبدي تأييدها لفرض العزل.
تنتمي كارولين، وهي شابة في الثالثة والعشرين، إلى هؤلاء المنادين بعزل مخفف يسمح بعدم تكرار "التجربة الصعبة" التي عاشها جزء كبير من الفرنسيين في الربيع الماضي. تخرج الفتاة "مرة أو مرتين على الأقل" كلّ يوم للتنزه أو للتبضّع أو لممارسة الرياضة في حيّها الواقع شرقي باريس، ولا تتردّد في زيارة أصدقاء لها يقيمون على مقربة من مكان سكنها، أو في استضافتهم في شقّتها الجامعية الصغيرة، بالرغم من منع الحكومة لقاءات كهذه. تقول: "لا أعتقد أنني أرتكب مخالفة كبيرة. نتجنب الاحتكاك عن قرب عندما نلتقي ونتّخذ كلّ الاحتياطات، مثل تجنب زيارة أقاربنا المسنّين. لا يمكنني قضاء 24 ساعة في شقة من 14 متراً مربعاً من دون أن أخرج. لا أريد لما عشته خلال العزل الأول أن يتكرّر. من المهمّ بالتأكيد ألّا يموت المرء بسبب الفيروس، لكن من المهم أيضاً ألّا يموت اجتماعياً ونفسياً وهو يحارب الفيروس".
بدوره، يستفيد أنطوان من تصريح الخروج من أجل العمل، الذي يملكه، لقضاء أكبر وقت ممكن خارج البيت. رغم تأييده لمبدأ العزل، يلقي الشاب الثلاثيني بالنقد اللاذع على سياسة الحكومة: "كان يمكن للمسؤولين السياسيين التخفيف من حدة الوباء منذ أسابيع، لكنّهم لم يتصرفوا كما يجب. كانوا مشغولين باعتبارات اقتصادية وسياسية. منذ أشهر وهم ينتظرون اللحظة الأخيرة لاتخاذ قرار. واليوم يقولون إنّ العزل هو الحلّ الوحيد لصدّ الوباء، أي أنّ مسؤولية صدّ الوباء ملقاة على عاتق الفرنسيين، لا على عاتق الحكومة".