تقف اللبنانية سعاد بتردّد قرب واجهة صيدلية في منطقة جونية (شمال بيروت)، وبيدها لائحة بأسماءِ أدوية يجب أن تتناولها يومياً وبانتظام. تنظر إلى محفظتها وتعدّ ما في داخلها، تخطئ ثم تواصل العدّ قبل أن تضع يدها على الباب والهمّ يأكل وجهها، ثم تتحدّث بانكسار إلى من حولها قائلة: "أنا مريضة بالسكري وضغط ومشاكل صحية كثيرة، وأدويتي تحتاج إلى ملايين لا أعلم من أين أجلبها".
تضيف: "قررت أن أطلب المال من أولادي العاجزين أصلاً عن تأمين لقمة العيش. لكن ماذا عن الشهر المقبل، وما بعده. ماذا عن فواتير الاستشفاء ومولد الكهرباء والأكل والمياه. الموت أصبح أفضل من الذل الذي نحن فيه اليوم".
قصة سعاد همّ كل مواطن لبناني وجد نفسه محاصراً بالغلاء الفاحش والقرارات العشوائية التي تزيد معاناته، وآخرها رفع الدعم الجزئي عن أدوية الأمراض المزمنة، والذي جعل كثيرين يصفون خطوة وزير الصحة فراس أبيض بأنها "جريمة" بعدما حلّقت الأسعار عالياً، وبات الوصول إليها حكراً على الأغنياء، من دون تقديم أي بديل في المقابل للحفاظ على حياة الناس.
وفي تبريره للقرار، قال أبيض، الذي يُتَّهم بأنه قليل الإطلالات والكلام: "لا يتوافر مال كافٍ لتغطية كل الاحتياجات، ونحن نحاول بالمال الموجود إيجاد حلول، خصوصاً لموضوع حصر مصرف لبنان دعمه بمبلغ 35 مليون دولار شهرياً. وقد أبقينا الدعم على الأمراض المستعصية والسرطانية والنفسية والعقلية وأدوية المستشفيات". واللافت أن السلطات كانت قد وعدت بعدم تطبيق أي قرار لرفع الدعم عن الأدوية أو المحروقات قبل إقرار البطاقة التموينية، لكنها خذلت الناس مجدداً.
يقول رئيس لجنة الصحة البرلمانية النائب عاصم عراجي، لـ"العربي الجديد": "اتخذ وزير الصحة قراره مرغماً، لأن حصر مصرف لبنان الدعم بـ35 مليون دولار شهرياً حتم اختياره بين السيئ والأسوأ، فاختار السيئ وأبقى الدعم الكامل على أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية، نظراً للتداعيات الكارثية لقرار من هذا النوع".
ويوضح عراجي أن "الآلية المتبعة تلحظ الإبقاء على دعم نسبته 25 في المائة على الأدوية المزمنة الرخيصة، و45 في المائة للمتوسطة الثمن، و65 في المائة للباهظة الثمن".
وفي شأن ما يُحكى عن أن استكمال رفع أسعار أدوية الأمراض المزمنة سيحصل تدريجاً لكن بوتيرة سريعة خلال الأسابيع القليلة المقبلة، في مسار يبقي الأدوية مقطوعة في السوق، يعلّق عراجي بأن "تحديد الدعم قرار مرتبط بمصرف لبنان".
ويتحدث نقيب الصيادلة غسان الأمين، لـ"العربي الجديد"، عن أن "رفع الدعم أولاً عن أدوية أو تي سي التي لا تحتاج إلى وصفة طبية، ثم جزئياً عن تلك المزمنة التي يتناولها المريض يومياً، مثل أدوية الكوليسترول وتريغليسيريد والسكري والضغط وغيرها، سيجعلها متوفرة في الأسواق ولو بأسعار مرتفعة جداً قد لا تسمح للناس بشرائها".
ويشير إلى أن "الدعم يخصص 10 ملايين دولار للمستلزمات الطبية شهرياً، و25 مليون دولار للأدوية، و18 مليوناً لدعم أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية، في حين يوزع الباقي لتأمين الاحتياجات الأساسية والتي تشمل حالياً أدوية الأمراض المزمنة".
ويكشف عدد من الصيادلة لـ"العربي الجديد"، أن "الشركات ما زالت ترفض تسليم الأدوية أو تحصرها بكميات قليلة جداً. وهناك أدوية كثيرة ما زالت مقطوعة، وسمعنا أن رفع الأسعار سيتواصل في الأيام المقبلة، ما يجمّد التسليم من أجل بيعها بسعر أعلى لاحقاً، خصوصاً أن سعر صرف الدولار تجاوز 23 ألف ليرة".
ويشير هؤلاء إلى أن "السوق يشهد فوضى في الأسعار، سواء على صعيد السوق السوداء التي تبيع الأدوية المقطوعة بأسعار مرتفعة جداً، أو الصيدليات المرخصة التي تخالف تسعيرة وزارة الصحة".
من جهته، يعطي الصيدلي علاء الرحباني، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أمثلة عن تغيّر أسعار الأدوية، ويقول: "كان سعر دواء كونكور 5 ملليغرام للضغط 19 ألف ليرة (82 سنتاً بحسب سعر صرف الدولار في السوق السوداء والمقدر بـ23 ألف ليرة)، وأصبح 69 ألف ليرة (3 دولارات)، وميكارديس للضغط 80 ملليغرام 24.500 ليرة (1.06 دولار)، وأصبح 172 ألف ليرة (7.47 دولارات)".
يضيف: "راوحت أسعار أدوية السكري بين 70 و80 ألف ليرة (3.04 و3.47 دولارات)، وأصبحت تتخطى 700 ألف ليرة (30.43 دولاراً)، أما دواء كرستور للكوليسيرول فبلغ سعره سابقاً 18.750 ليرة (81 سنتاً)، وأصبح 125 ألف ليرة (5.43 دولارات)، وليبيتور 40 ألف ليرة (1.73 دولار)، وأصبح 516 ألف ليرة (22.43 دولاراً). وإذا رفعنا العيار أكثر يتخطى سعر العلبة الواحدة 800 ألف ليرة (34.7 دولاراً)".
ويتوقف الرحباني أيضاً عند كارثة سعر حليب الأطفال، فهو محدد للمرحلة الممتدة من الولادة حتى عمر 12 شهراً بـ93.426 ليرة (4.06 دولارات)، بينما رُفع الدعم بالكامل عن الحليب المخصص لعمر ما فوق السنة، وبات سعره يناهز 400 ألف ليرة (17.39 دولاراً) للحجم الكبير.
ويتحدث الرحباني عن أن أشخاصاً يقصدون صيدليته ثم يغادرون من دون شراء دواء رغم حاجتهم إليه، لأنهم لا يحملون مالاً كافياً لشرائه، ومنهم من باتوا يغرقون بالدين نتيجة ارتفاع أسعار الدواء والفاتورة الاستشفائية وذلك حفاظاً على صحتهم، "والمآسي كثيرة والهموم قاتلة، وترتد علينا أيضاً عند سماعنا لها".
وفي جولة سريعة على الأسعار المعدّلة التي نشرتها وزارة الصحة اللبنانية، يمكن ملاحظة أن سعر بعض الأدوية تجاوز مليون ليرة (43.47 دولاراً)، وأخرى 5 ملايين ليرة (217.3 دولاراً)، وهي أرقام لا تتخطى فقط الحد الأدنى للأجور المحدد بـ675 ألف ليرة (29.34 دولاراً)، بل تفوق المعدل الوسطي للرواتب، أي بين مليونين (86.95 دولاراً)، وثلاثة ملايين ليرة (130.43 دولاراً).