ليست المرّة الأولى التي تُغرق فيها السيول لبنان أو بالأحرى بعضاً من مناطقه، مذ بدأت الأمطار بالهطول في البلاد قبل أسابيع. لكنّ ما حدث ليل الجمعة-السبت كان فاضحاً، لا سيّما أنّ أحد المشاهد المتناقلة يُظهر شاحنة إطفاء تغمرها المياه حتى نصفها في العاصمة بيروت.
ووسط الأمطار الغزيرة التي تساقطت في مختلف أنحاء لبنان منذ مساء أمس الجمعة وحتى صباح اليوم السبت، غرقت طرقات عديدة، من بينها طرقات سريعة وأخرى فرعية بالإضافة إلى أنفاق، الأمر الذي جعل كثيرين يُحتجَزون في داخل مركباتهم في انتظار من "ينقذهم" وينتشلهم من قلب مستنقعات المياه التي تشكّلت.
وأتى ذلك بعدما فاضت أنهر وقنوات تصريف على أثر ارتفاع مناسيب المياه فيها إلى مستويات قياسية، في مناطق مختلفة من العاصمة بيروت كما في ضواحيها الجنوبية والشمالية، وكذلك في وسط البلاد وجنوبها وشمالها.
في هذا الإطار، وبعدما غمرت سيول جارفة عشرات المركبات إثر فيضان نهر بيروت، أعاد وزير الأشغال العامة والنقل في حكومة تصريف الأعمال علي حميّة سبب فيضان هذا النهر إلى "عدم انسياب مياهه نحو البحر نتيجة عدم تنظيف مجراه"، وذلك في بيان نشره اليوم السبت.
مشاهد التقطها المصور الصحفي نبيل اسماعيل تظهر غرق السيارات في محيط نهر بيروت! 🍊 pic.twitter.com/OIx8tMfS0H
— مصدر مسؤول (@fouadkhreiss) December 23, 2023
أمّا الأسوأ فقد سُجّل صباح اليوم السبت، مع مصرع أربعة أطفال سوريين لاجئين في حيّ حميص بمدينة مزيارة قضاء زغرتا شمالي لبنان، من جرّاء انجراف التربة وسقوط بعض منها على سطح الغرفة التي يقطنونها، فانهار السقف المصنوع من ألواح صفيح.
وإلى جانب هذه الخسائر في الأرواح، ألحقت السيول الأضرار بمنازل ومستشفيات وقد اجتاحتها، في حين سُجلت انهيارات جزئية في عدد من المباني وجدران الدعم والجبال، وقُطعت طرقات.
والفيضانات الناجمة عن كميات الأمطار الكبيرة المتساقطة في ساعات قليلة، والتي أتت قبيل عيدَي الميلاد ورأس السنة لتنغّص على اللبنانيين عطلتهم، تحوّلت إلى مادة دسمة لانتقاد أوضاع البنى التحتية في لبنان والفساد الذي يؤثّر على ذلك، عبر تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي.وقد تداول ناشطون على تلك المواقع صوراً وتسجيلات فيديو تكشف هشاشة البنى التحتية في لبنان، مع تعليقات تشير إلى أنّ مستوى المياه اليوم يكشف حجم الفساد في الدولة وأنّ لبنان برمّته تحوّل إلى بحر. وناشد آخرون الجهات المعنيّة ضرورة تنظيف المجاري وإنجاز أعمال صيانة الطرقات وما إليها قبل بدء موسم الأمطار.
فائض الفساد والإهمال والفشل، طبيعي يتسبب بفيضان سيول ومجارير.
— Christine Habib (@Christine_Habib) December 23, 2023
فائض قلة الأخلاق وإنعدام الكفاءة، طبيعي يتسبب ببهدلة المواطنين على الطرقات.
(تحيّة لعناصر الدفاع المدني اللبناني).#أمطار #لبنان
pic.twitter.com/nzOws4bZDw
لبنان يتأثّر بمنخفض جوي آخذ بالانحسار
في هذا الإطار، قال رئيس قسم التقديرات السطحية لدى مصلحة الأرصاد الجوية في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت محمد كنج، لـ"العربي الجديد"، إنّ "المنخفض الجوي الذي يتأثّر به لبنان سوف يبدأ بالانحسار بعد ظهر اليوم السبت، بحسب التقديرات، فتخفّ بالتالي غزارة الأمطار، لتُسجَّل انفراجات صباح غدٍ الأحد، قبل أن تستقرّ أحوال الطقس بعد ظهر بعد غدٍ الاثنين". أضاف أنّ الأسبوع الأخير من عام 2023 الجاري سوف يشهد "استقراراً جوياً، علماً أنّنا اليوم نُعَدّ في اليوم الثالث من فصل الشتاء في لبنان".
وعمّا شهده لبنان منذ مساء أمس الجمعة، أوضح كنج أنّ "سرعة الرياح في مطار بيروت تجاوزت 100 كيلومتر في الساعة فجر أمس الجمعة، وقد شهدنا ارتفاعاً في مستوى أمواج البحر". وتابع: "سبق أن حذّرنا من الأمطار الطوفانية نتيجة التطرّف المناخي"، مؤكداً: "وقد نبّهنا منذ بداية عام 2023 إلى أنّنا سوف نشهد أمطاراً غزيرة وعنيفة في فترات زمنية قصيرة وغير موزّعة على كامل الشهر. وهذا ما شهدناه كذلك، قبل فترة وجيزة، عندما تساقطت خلال نصف ساعة كميّة أمطار وصلت إلى حدود خمسين ملليمتراً، وهو ما يوزاي معدّل عشرة أيام من الأمطار".
وبيّن كنج أنّ "مدينة بيروت شهدت كمية متساقطات بحدود 87 ملليمتراً في الساعات الأربع والعشرين الماضية (حتى صباح اليوم السبت)، تُضاف إلى 16 ملليمتراً من فجر أمس الجمعة حتى ساعات الصباح منه، الأمر الذي يعني 103 ملليمترات، علماً أنّ معدّل الشهر كله يبلغ 164 ملليمتراً. أمّا في مدينة طرابلس الشمالية، فقد وصلت كمية المتساقطات إلى حدود 107 ملليمترات خلال 24 ساعة، الأمر الذي يساوي تقريباً 65% من معدّل الشهر كاملاً. وهذا رقم كبير جداً، ناهيك عن 21 ملليمتراً منذ فجر أمس الجمعة حتى ساعات الصباح منه، الأمر الذي يعني 128 ملليمتراً في 30 ساعة فقط".
عمليات إنقاذ للدفاع المدني وسط ما شهده لبنان
من جهته، أصدر المكتب الإعلامي للدفاع المدني اللبناني بياناً، صباح اليوم السبت، استعرض فيه محصّلة عمليات الإنقاذ والإسعاف على خلفية الفيضانات في مختلف المناطق اللبنانية. وأوضح أنّ "المهام تنوّعت ما بين إنقاذ مواطنين احتجزتهم السيول في داخل سياراتهم ومنازلهم وفي أماكن السهر، وبين سحب سيارات وجرف أتربة وصخور عن الطرقات، وسحب المياه من داخل منازل ومستودعات، وفتح أقنية مياه الصرف".
أضاف الدفاع المدني أنّ عناصره تمكّنوا من "إنقاذ 64 تلميذاً حاصرتهم السيول في داخل باصَين (حافلتَين) في منطقة نهر الكلب (إلى الشمال من بيروت)، وقد نقلوا إحدى التلميذات إلى المستشفى وقدّموا الإسعافات الأولية اللازمة لتلميذة أخرى". وتابع أنّ عناصره عمدوا اليوم السبت إلى "سحب المياه من داخل مستسفى قلب يسوع (في منطقة الحازمية بمحافظة جبل لبنان إلى الشرق من بيروت)، بعد أن اجتاحته الفيضانات".
وفي تدوينة نشرها الدفاع المدني صباح اليوم السبت على منصة "إكس"، ذكر أنّ فرقه عملت على "انتشال جثث أربعة أطفال سوريين من تحت أنقاض غرفة" في حيّ حميص بمدينة مزيارة، "قضوا من جرّاء انهيار سقف الغرفة التي كانوا بداخلها. وقد تمكّن الوالدان والابن البكر من الخروج أحياء من داخلها"
انتشال جثث الأطفال السوريين ٤ من تحت انقاض الغرفة في حميص/مزيارة
— الدفاع المدني اللبناني (@CivilDefenseLB) December 23, 2023
تمكن عناصر الدفاع المدني في هذه الاثناء من انتشال الجثة الأخيرة من جثث الأطفال السوريين ٤ الذين قضوا جراء انهيار سقف الغرفة التي كانوا بداخلها في حميص/مزيارة
وقد تمكن الوالدين والابن البكر من الخروج أحياء من داخلها pic.twitter.com/hLHGN4VDMP
أمطار لبنان تنغّص عطلة الأعياد
جورج جوستنيانو وصل أمس الجمعة إلى لبنان لقضاء عطلة الأعياد، ويخبر "العربي الجديد" كيف علق مع زوجته وطفله البالغ من العمر سبعة أشهر في سيارتهم بمنطقة وادي أدونيس (إلى الشمال من بيروت). يضيف: "جئت للاحتفال بالأعياد مع عائلتي، غير أنّنا غرقنا في السيول حتى الساعة التاسعة من مساء أمس"، مؤكداً: "علقنا نحو ثلاث ساعات ونصف ساعة بعد أن جرفنا النهر". ويتابع جوستنيانو: "اضطررت إلى اجتياز الطريق الغارقة بالمياه سيراً على الأقدام برفقة زوجتي وطفلنا، حتى وصلنا إلى مبنى انتظرنا فيه وصول عناصر الدفاع المدني الذين فعلوا المستحيل لإنقاذنا على الرغم من إمكانياتهم المتواضعة".
من جهته، يخبر أسامة "العربي الجديد" كيف علق في المنطقة الصناعية بمدينة صيدا (جنوب) في طريق عودته من عمله أمس الجمعة، بعدما اجتاحت سيارته الأمطار الطوفانية. يضيف: "أخرجوني من السيارة باستخدام رافعة، وذلك بعد انتظار طويل تسبّب في ارتفاع ضغط الدم لديّ". ويشير إلى أنّ "في لبنان، للأسف، نسلّم أمرنا للقدر على الدوام".
وفي ما يتعلّق بإغراق مياه الأمطار أجزاءً من مستشفى "قلب يسوع" المشار إليه آنفاً، يقول مصدر لـ"العربي الجديد" إنّ "عمليات سحب المياه ما زالت جارية حتى ساعة كتابة التقرير، وذلك بمساعدة فرق الدفاع المدني اللبناني. وبالتالي، من الصعب إحصاء الأضرار في الوقت الراهن". لكنّه يشير إلى أنّ "السيول اجتاحت الطبقة الأرضية من المستشفى بأكملها، واقتصرت الأضرار على الماديات، من قسم الطوارئ إلى أقسام الأشعة والفحوصات الخارجية والإدارة".
يضيف المصدر نفسه أنّ "هذه ليست المرّة الأولى هذا العام، فقد سبق أن تعرّض المستشفى للأمر نفسه في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. والسبب لا يعود فقط إلى غزارة الأمطار وعدم قيام البلديات ووزارة الأشغال العامة والنقل والمعنيين بواجباتهم لجهة تنظيف المجاري، إنّما بسبب انهيار الجدار المحاذي للمستشفى والذي تمرّ تحته قناة مياه". ويشرح أنّ "الجدار انهار كلياً نتيجة ضغط المياه، بعدما كان قد انهار جزئيّاً قبل شهرَين. وكنّا قد ناشدنا حينها بضرورة إيجاد حلّ وقائي، لكنّنا للأسف لم نرَ أيّ تحرّك من قبل البلدية والمعنيين".