تتميز مدينة "بني حواء" (180 كيلومتراً غربي العاصمة الجزائر)، بموقع طبيعي شديد الجمال تمتزج فيه جاذبية ساحل البحر المتوسط وروعته مع هدوء وسكينة الطبيعة التي تتخللها غابات الصنوبر الخلابة، وقد زادت المدينة رونقاً تلك الأساطير الكثيرة التي يتم تداولها شعبياً جيلاً بعد جيل حول ضريح "أم البنات"، أو ما يعرف محلياً باسم ضريح "ماما بينات". يحكي الضريح التاريخي قصة مجموعة من الراهبات الهولنديات اللاتي فضلن البقاء في الجزائر وتعلًقن بها على العودة إلى بلادهن، وتعود أصول القصة إلى بداية القرن التاسع عشر، وتحديداً في 15 يناير/كانون الثاني 1802، حين انطلقت سفينة عسكرية فرنسية تسمى "ألبانيل" من ميناء تولون الحربي، وكانت تحمل على متنها أكثر من 200 بحار و3500 عسكري، إلى جانب عدد من النسوة المكلفات بأمور الطبخ والتمريض والتنظيف، فضلاً عن مجموعة من الراهبات الهولنديات، وكانت أكبرهن "ماما بينات" التي تدور حولها الأسطورة.
تاهت السفينة العسكرية في ليلة شتوية عن مسارها بفعل عاصفة هوجاء أفقدت قائدها السيطرة عليها في مياه البحر المتوسط. يقول الباحث في تاريخ المنطقة، إبراهيم خضراوي، لـ"العربي الجديد"، إن "الباخرة جهزها القائد نابوليون بونابارت ضمن أسطول حربي مكون من ثلاث سفن، وكان الأسطول يضم ما يقارب 20 ألف رجل، وكانت متجهة إلى منطقة سان دومينيك في جزر الكاريبي لنجدة قوات فرنسية كانت محاصرة في أوضاع حرجة هناك، فضلاً عن تكليفها بمهمة القضاء على الجنرال الفرنسي "توسان لوفارتور"، والذي شق عصا الطاعة، وقاد تمرداً ضد نابوليون في المنطقة. غير أن السفينة واجهت طقساً سيئاً في البحر". يضيف خضراوي: "في منطقة مقابلة لساحل بني حواء، تلاطمت السفينة بأمواج عاتية، وحجب الضباب الرؤية عن طاقمها، ثم تشكلت فجأة عاصفة دفعت ربان السفينة إلى التوجه إلى الخليج الصغير القريب، لكن الارتطام الشديد بالصخور أدى إلى غرق السفينة، وعندها سارع سكان المنطقة بزوارقهم للهجوم عليها، وحسب القانون السائد آنذاك، كان يسمح بالهجوم على أية سفينة تدخل النطاق البحري للمنطقة، وتم احتجاز عدد كبير من الجنود الناجين من الغرق، ثم تدخل حاكم منطقة وهران، الداي مصطفى، بعد رسالة من نابوليون، فتم نقلهم في رحلة دامت 12 يوماً إلى ميناء وهران، قبل أن تتم إعادتهم إلى فرنسا عبر إسبانيا".
تختلف الروايات حول العدد الحقيقي للراهبات الهولنديات اللائي كن على متن السفينة الفرنسية، بين خمس وسبع راهبات، واللاتي غيرت العاصفة التي أغرقت السفينة مصيرهن، فبعد نقلهن من شاطئ وادي قوسين إلى مركز مدينة بني حواء الذي يبعد نحو 15 كيلومتراً، قررن البقاء في المنطقة، وبدأ تأقلمهن مع عادات وتقاليد أهلها، ثم طابت لهن الإقامة في الجزائر، نظراً لكرم الضيافة من الأهالي، وسهل الترحاب عليهن اعتناق الإسلام، وقبلت بعضهن الزواج من مسلمين، وتزوجت الأم "غيان" الأكبر سناً بينهن، بأحد قادة المنطقة، ولقبت لاحقاً باسم "ماما بينات"، وكانت تحظى بمكانة كبيرة وصلت إلى حد حصولها على عضوية مجلس حكماء المنطقة.
أرادت "ماما بينات" أن ترد الجميل للأهالي الذين عاملوها باحترام كبير، فأمرت النسوة الهولنديات بتجميع نساء المنطقة كل مساء لتعليمهن بعض ما بلغته الحضارة الغربية آنذاك، وإخراجهن من حياة البداوة التي كانت تميز سكان المنطقة، فعلموهن غزل الصوف، والتمريض، وفنون الطبخ وحرفا أخرى، واستغلت هي خبرتها في التمريض، لتتحول إلى طبيبة المنطقة الموثوقة، وكانت تداوي العديد من الأمراض باستخدام الأعشاب ومياه البحر.
ويقول الأمين العام للجمعية الثقافية "تيفاوين"، بوعلام خديمي، لـ"العربي الجديد"، إنها "أول من طبق العلاج بمياه البحر، فكانت تنصح النسوة اللاتي يعانين من مشكلات في الولادة بزيادة ملوحة الرحم، والتي تساعد على نمو الجنين، وتسهل الولادة، وهو ما أثبتته أبحاث طبية حديثة، إضافة إلى معالجة آلام المفاصل والعظام بمياه البحر، ولا تزال بعض الأعشاب التي استعانت بها، والتي تنمو في تلك المنطقة الجبلية، مقصداً للعديد من باحثي العلاج الطبيعي لعلاج أمراض القولون والمعدة".
نجاح "ماما بينات" في توفير خلطات علاجية ناجعة، ومداواة أهل المنطقة بها كان عاملاً مهماً في زيادة شهرتها، ثم تبرعت بمساحة كبيرة من الأرض التي كان يملكها زوجها لتحويلها إلى مقبرة للمسلمين، وهو ما جعلها تحظى بمكانة كبيرة وصلت إلى حد اعتبار البعض أنها من الأولياء الصالحين، ليتم بناء ضريح يخلدها في سنة 1936، وقد أضحى معلماً أثرياً في المنطقة، وكتب على مدخله: "هنا ترقد ماما بينات مع رفيقاتها المتدينات اللواتي نجون من غرق باخرة ألبانيل".
على غرار كل القصص التاريخية، تدخلت الأسطورة لتلعب دورها في تغيير الوقائع، حتى باتت العديد من نسوة منطقة بني حواء، يقبلن على زيارة الضريح، خصوصاً قبل الزواج وبعده، بغرض "نيل بركة الأم بينات"، حسب المعتقدات الشعبية.
في زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر، استغل المستعمر "بورتو روتي"، والذي حاز معظم أراضي بني حواء، أهمية المكان لزيادة مصالحه التجارية، فأعاد بناء الضريح بعد سقوطه على إثر زلزال في 1954، وغرس أشجار التين الهندي المستوردة من إيطاليا بمحاذاة الضريح، كما نشر شائعة تقول إن هذه الأشجار مقدسة مثل "ماما بينات"، لأنها جاءت من وراء البحار مثلها، ثم قام بإنشاء مصنع لمربى التين، وتسميته "مربى ماما بينات"، بهدف تسويق منتجاته.
تبدو القصة بما فيها من اختلاط إنساني وتاريخي جديرة بأن تتحول إلى عمل درامي يبرز معالم الحياة في الجزائر، وعلاقة السكان بالبحر المتوسط قبيل سنوات الاحتلال الفرنسي. وفي 15 إبريل/نيسان 2008، قامت السفارة الهولندية في الجزائر بتمويل إعادة ترميم الضريح، وقام السفير الهولندي آنذاك، بافتتاح المعلم الذي علقت على مدخله لوحة كتب عليها "في ذكرى وفاة هؤلاء النسوة المكنيات بالهولنديات الناجيات من حادثة غرق سفينة ألبانيل في خليج السواحلية سنة 1802".