مزج المغني التركي مسلم جورسيس، الموسيقى التركية بالكردية والعربية، وأضفى عليها مسحة الحزن والشقاء اللذين عاشهما، فاستحق بجدارة لقب "مسلم بابا"، كما استحق تأسيس متحف باسمه
ليس من تكريم، ربما، يوازي أن تنشئ الدول متاحف بأسماء أشخاص، فهو ما يؤكد غالباً ما لهؤلاء الأشخاص من مكانة في المجتمع، وأثر أحدثوه في حياتهم، أو تركوه مستمراً بعد رحيلهم. والمطرب الشعبي الأشهر في تركيا، مسلم جورسيس (اسم الشهرة الأصلي أكباش) أو "مسلم بابا" نال ربما ميزة يتفرد بها، من خلال إنشاء تركيا متحفاً باسمه بعد وفاته (2013) بأشهر قليلة، لتحتفي بمسيرة ونجاحات هذا المغني الشعبي، الذي لقّب بعد وفاته بـ"أبي موسيقى الأرابيسك" تشجيعاً للأجيال على العمل والسعي إسوة بما فعل، وللمعجبين على الاطلاع على تفاصيل لم تُكشف، إلاّ من خلال المتحف.
أنشأت بلدية مدينة شانلي أورفا، مسقط رأس جورسيس "متحف مسلم جورسيس للفن والموسيقى" تخليداً لذكراه. يضمّ المتحف مجسماً للمطرب الراحل مصنوعاً من الشمع، يرتدي فيه ملابسه ونظاراته الشمسية وحذاءه ويحمل سبحته، إلى جانب أدوات موسيقية كانت من مقتنيات "مسلم بابا" وصور تظهر رحلته الفنية التي بدأها منذ طفولته، وغيرها من المقتنيات الشخصية.
وطوال ساعات عمل المتحف، تُسمَع أغاني جورسيس، ليتمتع الزائرون بلون يغلب عليه الحزن والنضال، علّها تنقلهم في رحلة إلى الذكريات وسط أجواء من الشوق والحزن، ومن أشهر هذه الأغاني "القوافل المحملة بالحب" و"سمّها ما شئت" و"رياح الشوق)".
تقول زينب يلماز، مسؤولة المتحف، إنّ كثيرين من عشاق "مسلم بابا" المحليين والمغتربين يتوافدون إلى المتحف طوال العام، مشيرة في تصريحات صحافية، إلى أنّ الزيارات تتكثف خلال الشهر الجاري، إذ فيه ذكرى وفاته التي تصادف في 3 مارس/ آذار.
يعتبر كثير من الأتراك، لا سيما سكان محافظة شانلي أورفا، أنّ مارس/ آذار، هو شهر مغني الأغاني الشعبية الأشهر، مسلم جورسيس، على الأقل، منذ توفي في مطلع مارس/ آذار 2013 عن تسعة وخمسين عاماً قضى جلها بالحرمان والعذاب، وهو الذي قال يوماً: "الجميع يولد في الجنة لكنّ البعض يكبر في الجحيم، مثلي أنا" لينال، وهو الذي لم ينجب، لقب "مسلم بابا" أي مسلم الوالد، إذ يعتبرونه كثيرون والدهم الروحي، خصوصاً أنصاره، أو مريديه، المعروفين نسبة إليه بـ"المسلميين"، ممن باتوا تياراً ممتداً بتركيا حتى اليوم، يعرفون بضرب أجسادهم بالشفرات، تعبيراً عن الألم وربما الشعور بما أحس به جورسيس. ولعلّ الحادثة الأشهر في حياة "مسلم بابا" وهوس جمهوره به، كانت يوم اعتلى أحدهم مسرح حفل حديقة "جولهانة" بإسطنبول عام 1989، وطعنه بسكين كادت تودي بحياته، لينظم "مسلم بابا" بعد شفائه ومسامحته المعتدي، حملة نهى فيها مريديه عن سلوكيات تعذيب الجسد عبر جروح الشفرات والسكاكين.
فمن هو هذا المغني الذي كرّمته تركيا، بمتحف باسمه، بعد وفاته بأقل من ستة أشهر؟ ولد الفنان الشهير مسلم أكباش، في السابع من مايو/ أيار 1953، في منطقة هالفيتي بولاية شانلي أورفا الحدودية الواقعة في الجنوب الشرقي لتركيا. بدأ مسلم مسيرته الفنية الفعلية وهو في الرابعة عشرة بعدما شارك في مسابقة موسيقية في مسقط رأسه. وبعد هذا الحدث، غنّى في العديد من النوادي، حتى نشر ألبومه الأول عام 1968.
يعرف بأسلوبه الموسيقي الشرقي، خصوصاً موسيقى الأرابيسك والإيقاعات الشعبية التي اشتهرت بها منطقة الأناضول. لكنّ الفنان تبنى خلال السنوات الأخيرة له، طابعاً موسيقياً مختلفاً، نوعاً ما، تراوح بين الروك والبوب. وخلال مسيرته الفنية، تحول جورسيس إلى أيقونة في تركيا، ما جعل الشعب يلقبه بـ"مسلم بابا" علماً أنّ حفلاته في جميع المراحل كانت تستقطب آلاف الشباب.
يتداول الأتراك، خصوصاً بعد تجسيد حياة جورسيس في فيلم سينمائي عام 2018، تفاصيل حياة المغني الأشهر، إذ ولد مسلم ضمن أسرة مكونة من والده محمد أكباش ووالدته أمينة أكباش وشقيقين وشقيقة. هاجر مسلم رفقة عائلته إلى مدينة أضنة، ليترك الدراسة بعد المرحلة الابتدائية ويعمل خياطاً وإسكافياً ليعيل نفسه وشقيقيه، بعد سجن أبيه، الذي قتل أمه وأخته الصغرى أمام عينيه.
أما بداياته الموسيقية فكانت عام 1965، عبر الغناء بحدائق الشاي (أماكن يجتمع فيها الأتراك لشرب الشاي والتسامر تشبه المقاهي العربية) في سنّ الثانية عشرة. وفي العام 1967، استطاع مسلم الفوز بمسابقة غنائية نُظمت في مدينة أضنة، لكنّ والده رفض مشاركته، وأمام تصميم مسلم، أقدم الأب على قص شعر الطفل، فذهب مسلم على الرغم من ذلك للمشاركة، فكانت تلك الحفلة بداية لحفل أسبوعي وصولاً إلى تسجيل أول أسطوانة تحمل اسمه الفني الجديد الذي أصبح مسلم جورسيس (جورسيس تعني الصوت الجهوري).
ودخل مسلم جورسيس عالم الشهرة والأضواء بعد وصوله إلى مدينة إسطنبول عام 1969 متعاقداً مع شركة "بلاندوكين" التي أنتج معها ألبومه "القوافل المحملة بالحب" الذي حقق نجاحاً باهراً، إذ بيعت أكثر من 300 ألف أسطوانة منه، واستمر مسلم في العمل مع هذه الشركة لينتج أكثر من 13 تسجيلاً، ثم انتقل بعدها للعمل مع شركات تسجيل أخرى ليفوق إنتاجه الفني 60 ألبوماً غنائياً و38 فيلماً سينمائياً.
وربما القصة الأبرز في حياة "مسلم بابا" عشقه للفنانة، محترم نور، التي تكبره بعشرين عاماً. ونشأت العلاقة خلال عمل سينمائي مشترك، وتوطدت عام 1980 خلال حفلة بمدينة ملاطية، وفي منتصف الثمانينيات أعلنا زواجهما الذي استمر حتى وفاة مسلم عام 2013، ثم توفيت محترمة في مارس/ آذار 2020.
يعتبر عازف القانون التركي، بولانت توركار أنّ "مسلم بابا" يحظى بمحبة الأتراك حتى اليوم، فهو إن لم يكن الأشهر، يمكن القول إنّه الأكثر جماهيرية، خصوصاً بين الشباب، معتبراً أنّ مسيرة مسلم وعذاباته ثم نجاحاته، وضعته بمرتبة القمة بعيون الأتراك، ليأتي زواجه من محترمة نور التي عشقها منذ صغره، على الرغم من فارق السن وعدم الإنجاب، ليزيد من تقدير ومحبة الأتراك له. يلفت توركار "العربي الجديد" إلى أنّ مسلم تعرض لحادث، في السبعينيات، خلال عودته من حفل موسيقي، فمات سائق السيارة ووضع هو في ثلاجة الموتى قبل أن يكتشف الأطباء أنّه على قيد الحياة. فقد بعد ذلك النطق فترة طويلة حتى عاد للغناء. يشير توركار إلى أنّ مثل هذه الحوادث وغيرها من المآسي التي تعرض لها جورسيس، زادت من عشق الأتراك له ومحبتهم لأغانيه.