بعد القرارات التركية المتعلقة بالتعليم والملكيات، ثمّة أخرى جديدة تخصّ المرضى السوريين وتنهي "دلالهم" كأنّما هي تدفعهم إلى العودة إلى بلادهم أو الهجرة. ويشعر هؤلاء بأنّ "شهر العسل" انقضى ليبدأ مشوار التضييق على السوريين وترحيلهم.
"عدت إلى سورية بعدما كنت قد وصلت إلى معبر باب الهوى وسُمح لي بدخول تركيا، لأنّ القرارات الجديدة تحول دون علاجي بالمستشفيات الحكومية التركية مجاناً كما في السابق". هذا ما يقوله المواطن السوري محمد العبد (52 عاماً) من محافظة إدلب، شارحاً لـ"العربي الجديد" أنّ "تركيا أوقفت منح بطاقة كيملك للحماية المؤقتة حتى للحالات الخطرة. وعمدت إلى إصدار وثيقة سياحية علاجية مؤقتة لمدة شهر، وهذه الوثيقة غير صالحة للعلاج". يضيف العبد: "سبق لي أن تلقيت العلاج مرتَين في مستشفى حكومي تركي في أنطاكيا، لكنّ تركيا لم تعد ترغب اليوم بتقديم العلاج لنا مجاناً، ومن خلال الوثيقة الجديدة التي تصدرها يمكننا تلقّي العلاج في مستشفيات خاصة لكنّها مكلفة جداً. لذا فضلت العودة".
ويطاول القرار التركي الجديد وقف صرف الدواء المجاني لحاملي الوثيقة الجديدة وعدم استقبال كل المصابين بحالات صحية حرجة، بما فيها أمراض القلب والأمراض السرطانية، الذين كانوا حتى الشهر الماضي يدخلون إلى تركيا ويحصلون على بطاقة "كيملك" تخولهم دخول المستشفيات الحكومية لتلقي العلاج وصرف الدواء مجاناً". لكنّ السلطات التركية أبقت حتى الآن على منح بعض حالات الطوارئ الخطرة مثل الإصابة بإطلاق نار وحوادث، بطاقة "كيملك"، لكنّ ثمّة توقعات بإلغائها قريباً، ليصار بالتالي إلى إغلاق الحدود بوجه المرضى السوريين مهما كانت حالاتهم، على أن يُسمَح لبعض هؤلاء بتلقي العلاج على نفقته الخاصة.
يؤكد مسؤول الإعلام عند معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية مازن علوش لـ"العربي الجديد" صحة الأمر، قائلاً إنّه "منذ منتصف شهر أغسطس/ آب الماضي، بدأ سريان قرار وقف منح المرضى بطاقة كيملك، وتزوّدهم بدلاً من ذلك بوثيقة سياحية علاجية تسمح لهم بالإقامة في تركيا لمدة شهر من دون أن تخوّل حاملها، كما كيملك في السابق، دخول المستشفيات الحكومية. ويستهجن السوريون الأمر، بسبب أوضاعهم المالية، علماً أنّ 120 مريضاً يعانون من حالات حرجة عادوا إلى سورية بعدما جاء دورهم للدخول إلى تركيا". ويكشف علوش أنّ "ثمّة 400 حالة حرجة تنتظر دورها للدخول إلى تركيا، كذلك ثمّة 500 حالة في انتظار تلقي العلاج في مستشفيات متخصصة. وقد أوقفنا تسجيل المرضى السوريين ريثما يُبَتّ بالأمر. وقد حاولنا التواصل مع مسؤولين أتراك وأمميين لكن من دون جدوى. منظمة أفاد لإدارة الكوارث والطوارئ التركية ترمي الكرة في ملعب السلطات الصحية التركية والأخيرة تعود لترميها في ملعب الأولى. والنتيجة أن لا علاج مجانيا للسوريين الذين يقصدون تركيا". ويلفت علوش إلى أنّ "الحالات السورية التي تلقت علاجاً هذا العام قليلة، بعد شبه توقف في خلال العام الماضي بسبب أزمة كورونا. وهي لم تتعدّ ستة آلاف حالة، وهو عدد قليل جداً قياساً بأعداد المرضى الذين دخلوا إلى تركيا في الأعوام السابقة. واليوم تسمح تركيا بدخول عدد محدود جداً من المرضى لتلقّي العلاج في مستشفيات خاصة، بعدما أوقفت منحهم بطاقة كيملك".
من جهته، يقول مدير مكتب التنسيق الطبي عند معبر باب الهوى الطبيب بشير إسماعيل لـ"العربي الجديد" إنّ "ثمّة 600 مريض تقريباً في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام شمال غربي سورية هم في أمسّ الحاجة إلى الدخول إلى تركيا لتلقّي العلاج. لكنّ مكتب التنسيق الطبي عند معبر باب الهوى شمالي إدلب توقّف عن توجيه الإحالات المرضية إلى تركيا، إلى حين تفعيل نظام صحي تركي جديد للمرضى السوريين بعدما ألغى الجانب التركي منح بطاقة كيملك واستبدلها بوثيقة علاج سياحية للسوريين، في إطار نظام غير واضح فاقم معاناة السوريين الذين يقصدون تركيا لتلقّي العلاج".
وحول كيفية علم المرضى في الداخل السوري بالقرار التركي الجديد، يقول إسماعيل: "أصدرنا تعميماً إلى المرضى الحاصلين على إحالات طبية لإعلامهم بأنّ صدور نتائج الإحالات المرضية توقف ابتداءً من تاريخ 11 سبتمبر/ أيلول الماضي، وذلك حتى تفعيل النظام الصحي الجديد للمرضى السوريين في المستشفيات التركية". وعن الفارق ما بين بطاقة كيملك والوثيقة السياحية العلاجية، يفيد إسماعيل بأنّ للوثيقة العلاجية السياحية امتيازات أقلّ من بطاقة كيملك التي كان يحصل عليها المرضى السوريون الداخلون إلى تركيا. فهي تلزم المريض بالعودة إلى سورية شهرياً عند انتهاء مدة صلاحيتها، وهذا يمثّل عناء كبيراً بالنسبة إلى المريض، خصوصاً الذين يتلقون علاجاتهم في مستشفيات ولايات بعيدة عن الحدود السورية، علماً أنّ المريض كان يستطيع تجديد بطاقة كيملك سابقاً في أيّ دائرة هجرة في ولاية تركية يخضع للعلاج في مستشفياتها. يضيف إسماعيل أنّ "الوثيقة الجديدة لا تخوّل حاملها العلاج المجاني أو صرف الأدوية كما بطاقة كيملك، بل تدخله إلى تركيا وليتعالج على نفقته الخاصة فقط".
ويواجه مكتب التنسيق الطبي عند معبر باب الهوى ضغوطاً متزايدة من المرضى الذين دخلوا في خلال الشهر الماضي وعددهم نحو 400 مريض لم يتلقوا العلاج حتى الآن. وقد سبق أن أوضح المكتب للمرضى أنّ فترة بدء العلاج قد تطول بسبب القرار الجديد. كذلك فإنّ نحو 300 مريض في الشمال السوري عمدوا إلى تأجيل دخولهم إلى تركيا بعد اعتماد النظام الجديد. وبحسب إسماعيل، فقد أتت هذه الخطوة التركية بعد إجراء قضى بضبط دخول مرافقي المرضى، وحرمان المرضى من التنقل بين الولايات التركية بغرض المكوث عند أقاربهم في خلال فترة تلقي العلاج. وهو ما يراه مراقبون مندرجاً من ضمن تضييق على السوريين لمنعهم من الدخول إلى تركيا بالتوازي مع قرارات أخرى طاولت السوريين في تركيا.
ولم تنجُ دور الاستشفاء السورية في تركيا من القرارات الجديدة، ويؤكد مدير دار الاستشفاء في الريحانية على الحدود التركية السورية ياسر السيد أنّ "قراراً اتّخذ بإغلاق كلّ دور الاستشفاء ابتداءً من العام المقبل". ويقول السيد لـ"العربي الجديد" إنّ "دارنا موجودة بولاية هاتاي منذ منتصف عام 2012، لكنّنا أُبلغنا في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري أنّها سوف تغلق، وتتحول العلاجات ما بعد الاستشفاء فيزيائياً ونفسياً إلى المستشفيات والدور التركية. ويكشف لـ"العربي الجديد" أنّ "المنح المالية الأوروبية المقدّمة لهذه الأغراض سوف تتحول إلى تركيا لتتكفل بعلاج السوريين واستشفائهم. وابتداءً من أغسطس/ آب 2022، لن يبقى أيّ مركز سوري طبي متخصص في تركيا". وحول أسباب هذا التحول التركي، يوضح السيد أنّ "المبررات التركية تشير إلى أنّ أعداد السوريين الذين يدخلون لتلقّي العلاج في تركيا كبيرة، ومعظم هؤلاء لا يعودون إلى بلادهم. كذلك فإنّ الأوروبيين بحسب تركيا، تراجعوا عن التزاماتهم المالية، وحين تتوقف المنح سوف يتوقف العلاج والاستشفاء المجانيَّين.
وتأتي "المضايقات والمتغيرات" على الصعيد الطبي بعد سلسلة إجراءات وقرارات اتخذتها تركيا في حق السوريين على أراضيها من أجل التضييق بهدف دفعهم إلى العودة إلى شمال غرب سورية، على الرغم من أنّ المنطقة هناك غير آمنة وتتعرّض إلى القصف بشكل مستمر.
ويحكي رئيس تجمّع المحامين السوريين في تركيا غزوان قرنفل لـ"العربي الجديد" عن تغيّرات طرأت على السوريين في تركيا، لعلّ أولّها أنّ "تأجير السوريين منازل، خصوصاً في إسطنبول، بات صعباً إن لم نقل مستحيلاً ويتطلّب شروطاً وضمانات مالية مرتفعة في حال تمّ التأجير، في حين أنّ السوري في السابق كان موضع ترحيب وتُقدَّم له منازل وتسهيلات".
وفي سياق متصل، صرّح رئيس بلدية الفاتح في إسطنبول التابعة إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم إرغون توران بأنّ منطقة الفاتح هي ثاني أكثر مناطق المدينة تأثراً بأعداد الأجانب فيها بعد منطقة إسنيورت، وأشار إلى صدور قرار ينصّ على عدم تأجير المنازل في المنطقتَين لأيّ أجنبي مهما كانت جنسيته، بما في ذلك حاملو الإقامات. وهو ما يراه مراقبون استهدافاً للسوريين الذين فضلوا منذ عام 2011 السكن في حيّ الفاتح، إذ يزيد عددهم في الحيّ عن 40 ألفاً وفق أقلّ التقديرات، مشيرين إلى أنّ رئيس البلدية تأثّر بالتحريض الذي تمارسه المعارضة وادعائها بأنّ السوريين سيطروا على الحيّ. يُذكر أنّ مرشحة حزب الجيد لبلدية الفاتح إيلاي أكسوي كانت قد رفعت في خلال انتخابات عام 2019، لافتة انتخابية في شوارع خُطّ عليها: "لن أسلّم منطقة الفاتح للسوريين".
ويوضح قرنفل أنّ "القرارات تتوالى. فبعد إعفاءات الطلاب السوريين الجامعيين من الأقساط المرتفعة ورسوم التسجيل، بدأت الجامعات الحكومية التركية ومنذ هذا العام معاملتهم تماماً كما هي الحال مع الطلاب الأجانب الآخرين الذين يتابعون دراستهم في تركيا. وبعد ذلك، رأينا قبل أيام إعادة تفعيل قانون قديم يعود إلى عام 1927 وهو إلزام السوري الحاصل على الجنسية التركية التوقيع على ورقة يتنازل في خلالها عن ملكيته للعقار لخزينة الدولة، في حال إسقاط الجنسية أو سحبها أو وفاته من دون أن يكون له وريث تركي". ويشير إلى أنّ "هذه الإجراءات تترافق مع حالات تحريض مستمرة بلغت ذروتها بعد أحداث أنقرة قبل شهرين، وعادت قبل أيام في ولاية إزمير عقب مقتل شاب تركي على يد شاب سوري"، متوقعاً "زيادة في التضييق واستخدام أحزاب المعارضة التركية السوريين كورقة ضغط سياسي كلما اقتربت الانتخابات الرئاسية المتوقعة في عام 2023".
ويستغرب قرنفل أن "تطاول القرارات المرضى" قائلاً إنّ "ثمّة سوريين قد يستخدمون عذر المرض للدخول إلى تركيا وعدم العودة إلى البلاد، لكنّ هذا لا يبرر منع علاج السوريين في المستشفيات الحكومية التركية كما في السنوات السابقة". والأشد خطورة برأي القانوني السوري هو أنّ "عمليات الترحيل تأتي بسبب مخالفات لا تستأهل الترحيل، لأنّ الشمال السوري غير آمن والمعاهدات الدولية بما فيها قانون الحماية المؤقتة لا تجيز الترحيل إلى مناطق تشهد نزاعاً أو تشكل خطراً على حياة الإنسان". لكنّ قرنفل يلفت إلى أنّه سمع من مصادر تركية أنّ "وقف علاج السوريين المجاني موقت، ريثما تتمّ تسوية نظام المستشفيات الحكومية وتقبلها رقم البطاقة السياحية. وفي كلّ الأحوال، فإنّ التزام تركيا بعلاج سكان الداخل السوري هو التزام أخلاقي وليس قانونياً".
في المقابل، يرى أتراك أنّ وجود السوريين في بلادهم قد طال، ولا بدّ لهؤلاء أن يعودوا إلى سورية أو أقلّه إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، لأنّها آمنة بدليل ذهاب كثيرين لقضاء فترة الأعياد فيها. ويحمّل أتراك من أحزاب المعارضة، خصوصاً "حزب الشعب الجمهوري" و"حزب الجيد" السوريين وزر تراجع مستوى معيشة الأتراك وكذلك البطالة والغلاء. فبالنسبة إليها تحمّلت تركيا أكثر ممّا يجب، ولا بدّ من عودة السوريين ووقف دخول حتى المرضى، إذ إنّ "الأتراك تعبوا من وجود السوريين". وقد سبق لرئيس بلدية مدينة بولو التركية تانجو أوزجان أن أوقف المساعدات للسوريين ورفع أسعار الطاقة والمياه عليهم وحرّض على عدم تأجيرهم المنازل وترحيلهم من الولاية. وقد صرّح: "لم يذهبوا عندما قطعنا المساعدات، ولم يذهبوا عندما توقفنا عن إصدار تصاريح العمل، لذلك قررنا الآن اتخاذ إجراءات جديدة". وأقرّ في تصريحات متتالية بأنّه يلجأ إلى ذلك لكي "يغادر الأجانب المدينة، إذ إنّهم تجاوزوا مدة الترحيب الخاصة بهم. لو كانت لدي السلطة، فسأرسل مسؤولي البلدية لطردهم بالقوة".
ويرى الباحث والمحلل التركي هشام جوناي أنّ "سبب التضييق جاء بعد حالات تذمر متزايدة من الأتراك، من جرّاء الأزمة الاقتصادية الخانقة. وليس بوسع الحكومة أن تتحمل أكثر من العدد الحالي، خصوصاً بعد موجات الهجرة الأفغانية، إذ يصل عدد اللاجئين في تركيا إلى أكثر من خمسة ملايين، أكثر من 3.6 ملايين من الجنسية السورية". يضيف جوناي لـ"العربي الجديد" أنّ "للأزمات المستجدة من قبيل وباء كورونا وحرائق الغابات وتراجع سعر صرف الليرة التركية في مقابل الدولار الأميركي، دوراً إضافياً بضيق الأتراك المعيشي وزيادة الأسعار، ما يدفعهم إلى طلب المساعدة من الدولة بدلاً من أن تقدّم هي المساعدة إلى اللاجئين. فهذا حق جميع مواطني العالم على دولهم ولهم الأولوية وليس للاجئين، سواء في تركيا أو أوروبا".
وعند سؤاله: هل يتحمل السوريون وزر التردي الاقتصادي؟ يجيب جوناي: "بالتأكيد فإنّ السوريين ليسوا السبب أو ليسوا السبب كله، لكنّ الأوضاع ساءت في خلال السنتَين الأخيرتَين، ولا بدّ من أن تنعكس على السوريين. هي انعكست في الأساس على الأتراك، ومن حقّ التركي أن يفضّل نفسه على أيّ لاجئ". وعن مدى تأثر الحزب الحاكم بضغوط المعارضة وتغيّر طرق التعاطي مع السوريين والتضييق الممارس، يقول جوناي: "أنا لا أسمّيه تضييقاً بقدر ما أرى في ذلك أنّ الحكومة والحزب لا يريدان مزيداً من الأعباء"، مضيفاً أنّه "لا يمكن ربط التضييق بانتخابات 2023 وربما يتصاعد لأنّ المعارضة تتخذ من السوريين ورقة ضغط على الحكومة، بل وتعد بعودة اللاجئين وإعادة التواصل والحوار مع النظام السوري". وعن القرارات المتعلقة بعدم استقبال المرضى وتطبيبهم مجاناً، يوضح جوناي أنّ "السوريين هنا يتعالجون مجاناً. ولنتذكر دائماً أنّ المواطن التركي يقول أنا أدفع تأميناً صحياً وضرائب فيما اللاجئون يتعالجون ويتعلمون مجاناً".