تجمع مئات آلاف المصريين في المقاهي الشعبية، بينما اتجهت الأسر إلى الأندية والأماكن العامة لمتابعة مباراة ختام مونديال قطر، وعلى مدار بضع ساعات، ودعوا أزماتهم القائمة بفعل زيادة الأسعار ومصاعب العيش، ليسترجعوا نشوة الحياة عبر الاستمتاع بمشاهدة مباراة مثيرة كانت مسك ختام مونديال حفل بالمفاجآت.
لم يكن حماس الجمهور في الشوارع اعتيادياً، فالجميع يعلم أن المباراة مذاعة على القنوات المفتوحة مجاناً كهدية من شبكة "بي إن سبورتس" صاحبة امتياز إذاعة المباريات. لكن ذلك لم يمنع من خروج جماعي لعائلات بأكملها، تضم فتيانا وفتيات وكهولا، إلى المقاهي والأندية لمتابعة المباراة.
اشتعل حماس الجمهور مع اللحظات الأولى للمباراة، وتسجيل الفائز بالكرة الذهبية، ميسي، الهدف الأول من ركلة جزاء. غالبية الشباب حائر بين حبه لميسي وتفضيله للفريق الفرنسي، والكبار شديدو الحماس لمنتخب الأرجنتين، والأمهات حائرات بين رغبات البنات اللائي يعلو صوتهن كلما اقترب الفرنسيون من تسجيل الأهداف.
بينما تزداد سخونة المباراة، وتتوالى الأهداف، يجلس حامد الجلاب على أطراف قاعة مفتوحة تمتلأ بمئات الأسر، فرحاً مهللاً. عندما سألنا الرجل الخمسيني إلى أي الفريقين "تنتمي"؟ فاجأنا بقوله: "أنا بتاع سندوتشات مش بتاع كورة".
فرحة الجلاب لم تكن بسبب سخونة المباراة، وإنما لحماس الجمهور الذي بات بإمكانه مشاهدة المباراة الختامية مجاناً عبر شاشة عملاقة في وسط النادي الرياضي بمدينة السادس من أكتوبر غرب العاصمة القاهرة، خصصت لعائلات من الطبقة المتوسطة العالقة بين أزمات تراجع قيمة الدخل مع انهيار الجنيه، وارتفاع سعر الدولار، وتصاعد الأسعار يومياً، بالتزامن مع زيادة معدلات البطالة، ودخول الأسواق في حالة ركود لعدم قدرة الناس على الشراء.
يعتبر الجلاب الذي يدير مطعماً ومقهى في المبنى الاجتماعي للنادي منذ سنوات، أن كأس العالم فرصة ذهبية لازدهار عمله الذي تدهور خلال السنوات الأخيرة، بداية بسبب جائحة كورونا، والعزلة الإجبارية التي فرضتها الطوارئ الصحية، ثم الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم منذ مطلع العام الحالي، إذ ارتفعت أسعار جميع السلع والخدمات.
يضحك الجلاب قائلاً: "أتمنى أن يستمر حماس الناس للخروج من سنوات العزلة، وربما دفعهم كأس العالم إلى الاعتياد على الخروج من البيت، وارتياد المقاهي من جديد. أملي أن تسهم مباراة ختام كأس العالم في مساعدتي على تسديد أجور العمال، ولا أنكر سعادتي بمشاهدة فرحة الناس وهم يتابعون المباراة، وحفل الختام عبر الشاشة التي جهزتها لهم".
في المكان، تتواصل صرخات الجمهور الكبير تفاعلاً مع أحداث المباراة، وبعضهم يقفز عالياً كلما اقتربت الكرة ناحية الشباك. قبل أن يسود الترقب بعد أن تعادل الفريقان بثلاثة أهداف لكل منهما، استعداداً لضربات الجزاء الفاصلة.
أفصحت اللحظات الأخيرة عن أسباب ولاء كل فرد لناديه، فلم تكن الصرخات على الكرة أو حسن اللعب، فالمهارات عالية لدى الفريقين، وحسن التنظيم للبطولة، والملعب الجميل لا يختلف عليها أحد، والفرح يتسع للجميع.
لكن الصراخ كان تعصباً لأمور أكثر عمقاً. الشباب المحب لفرنسا يتهم ميسي بدعم الكيان الصهيوني اعتماداً على صورة له أمام "حائط المبكى"، وبالتالي، فهو لا يستحق أن يخرج من البطولة فائزاً، وعليه أن يرحل مهزوماً عن الملاعب.
رؤية البعض المتشددة ضد ميسي وراءها نظرة أكثر تسامحاً مع الفريق الفرنسي الذي يرونه قوياً ومتنوعاً، كما أن 7 من كبار لاعبيه من ذوي الأصول الأفريقية، وهم ينظرون إلى هذا التنوع الذي يمثل جيلهم الباحث عن فرصة للخروج من بلد يفقد فيها الشباب قيمته، ولا يجد فرصة للعمل، أو لمستقبل أفضل.
يقول أحد الشبان المناصرين للفريق الفرنسي، بينما يجلس بين عمه وأبيه: "الفرصة هناك للعمل والتفوق وإثبات الذات قائمة". كان أبوه متحمساً من أجله، بينما العم يشجع على الأرجنتين.
سألناهم لماذا انقسم جيل الكبار داخل البيت الواحد، فضحك العم قائلاً: "ابن أخي يقيم في فرنسا، وأخي كان يشجع الولدين على الهجرة، أحدهما سافر منذ فترة، والآخر ينتظر فرصته في السفر. إنها مسألة ولاءات، أما الجيل القديم، فما زال على عهده منذ أن تحمسنا لساحر الكرة الأرجنتيني مارادونا في ثمانينيات القرن الماضي، حين تمكن من إحراز كأس العالم لبلاده، وندعم الأرجنتين لأنها دولة فقيرة مثلنا، وتعاني مما نعانيه من أزمات مالية طاحنة، لعل هذه الفرحة تخرجهم مما هم فيه".
جاءت ضربات الجزاء لتزيد الإثارة، بينما ينشغل صاحب المقهى في تحصيل قيمة المشروبات من الجمهور. عندما سألته لم العجلة؟ قال: "هذا الجمهور الغفير لن تجده هنا بعد قليل، وعلي أن أسرع بتحصيل المال قبل أن يرحل الجميع".
استطاع الرجل بالكاد بيع 100 مشروب، وبعض الوجبات السريعة التي طلبها الأطفال والشباب، فالأسر التي كانت ذات مستوى دخل مقبول لم تعد قادرة على توفير المال للتسلية والترفيه. الغلاء يطحن الجميع، وتراجع الدخل يداهم غالبية الأسرة بقوة، وفقا لتقارير البنك الدولي التي تؤكد وقوع 30 في المائة من المصريين تحت خط الفقر، وأن 60 في المائة من المصريين يلامسون ذاك الحد الذي يقدر بدخل يومي في حدود دولارين.
زادت الضرائب على أسعار المأكولات في الأماكن العامة، بما يشمل 14 في المائة ضريبة قيمة مضافة، و12 في المائة خدمة، إضافة إلى أنواع الرسوم التي تفرض على أصحاب المحال، ما يجعل من تناول المأكولات والمشروبات خارج المنازل يتطلب ميزانية كبيرة لا تقدر عليها غالبية الأسر المتوسطة التي تعارك الحياة يومياً، وتوجه كل طاقاتها المادية للإنفاق على تعليم فقد المجانية، وتركته الحكومة يكابد التخلف، ويغرق في فخ الدروس الخصوصية.
لم يكن غريباً أن تستغل كثير من العائلات المصرية ختام مونديال قطر لتعيش لحظات من المتعة بقدر ضئيل من النفقات، فالبعض اصطحب الأطعمة والمشروبات من المنزل، واكتفى بطلب كوب شاي، بينما تكلف "خروجة" مماثلة في الأوقات العادية الكثير من المال، خصوصاً وأن الأسعار ترتفع بشكل مبالغ فيه خلال المناسبات، ومن بينها المباريات الهامة، أو البطولات التي يتربع المونديال على رأسها في الأهمية.