اضطرت عشرات المعلمات الأفغانيات إلى البحث عن أي عمل متاح من أجل تأمين لقمة العيش لعائلاتهن، بعدما أغلقت حركة "طالبان" مدارس الفتيات الثانوية، وقد وصل الحال بالبعض منهن إلى التسوّل بعدما لم يتمكنّ من الحصول على أي عمل. غوتي فردوس، وهي معلمة في ولاية قندهار، إحدى هؤلاء فقد بدأت تتسوّل من أجل تأمين لقمة العيش وعلاج زوجها المريض. كانت أولاً تبيع الأقلام وعندما باتت على يقين أن أحداً لا يشتري منها، تحوّلت إلى متسوّلة.
يقول قاري زينت خان، وهو أحد سكان قندهار، لـ"العربي الجديد": "الوضع سيئ للغاية بالنسبة للعديد من المعلمات بعدما أغلقت طالبان المدارس وتوقف التعليم". ويرى أن المعلمات اللواتي اضطررن إلى استبدال التعليم بأي مهنة هن نساء جريئات كسرن القيود الاجتماعية وخرجن إلى السوق من أجل لقمة العيش، مشيراً إلى أن حال أعداد كبيرة من المعلمات سيئة جداً، إلا أنهن لا يخرجن إلى السوق والعمل لأسباب عدة، أهمها القيود الاجتماعية والأعراف الأفغانية التي لا تسمح للمرأة بالعمل بين الرجال وفي السوق، وخصوصاً في عدد من المهن، كتنظيف الأحذية أو بيع الخبز أو غير ذلك. كما أن الكثير من الأسر لا تسمح للنساء بالخروج إلى السوق من أجل العمل مهما كانت الحالة المعيشية، ومهما ضاقت بهن السبل.
ويوضح زينت خان أن الكثير من المعلمات اتخذن سبلاً مختلفة لتأمين لقمة العيش. من بين هؤلاء سحر مجيب، التي بدأت ترسل ابنيها الصغيرين إلى شوارع مدينة جلال أباد من أجل جمع النفايات، مثل الكراتين والقوارير البلاستيكية لبيعها. قبل بدء شهر رمضان، كانت مجيب تسلق البيض في المنزل وترسل ابنيها لبيعه في السوق للناس. لكن خلال شهر رمضان لم يعد ذلك ممكناً، فلجأت العائلة إلى جمع النفايات.
تقول مجيب لـ"العربي الجديد": "ما من كلمات يمكن أن تصف حالتي. كان زوجي يعمل في أحد المطاعم المحلية في جلال أباد، فيما كنت معلمة في إحدى المدارس، وكان حالنا جيداً. لكن بعد سيطرة طالبان على الحكم في البلاد، حُرِمت من العمل. قرر زوجي الخروج من أفغانستان ومحاولة الوصول إلى أوروبا. دفع المال الذي كنا نملكه إلى المهرب، لكنه وقع في قبضة الشرطة الإيرانية على الحدود وتعرض للضرب بشكل مبرح وعنيف. وفي الوقت الحالي، يعاني من آلام حادة في الظهر ولا يستطيع أن يعمل بشكل طبيعي، ويعمل فقط في حال عثوره على عمل سهل. اضطررت إلى الاستعانة بصغيريّ من أجل الحصول على رغيف الخبز". تتابع: "لا بد من دفع الديون التي اقترضها زوجي. في حال فتحت المدارس وعدت إلى العمل، يمكنني ترتيب حياتي من جديد".
من جهتها، تحكي الناشطة الإجتماعية راضية محب قصة معلمة تعيش في منطقة كمبني في ضواحي كابول وتدعى زينب. الأخيرة تطهو البولاني (الخبز الأفغاني المقلي مع البطاطس والبهارات)، وتبيعه في السوق مرتدية البرقع حتى لا يراها أحد. تعمل من الساعة الحادية عشرة صباحاً لتعود إلى بيتها قبل المغيب، وتحصل فقط على ما بين 200 و250 أفغانية (2.33 و2.91 دولار)، لتعيل من خلالها أبناءها اليتامى الذين فقدوا أباهم قبل خمس سنوات إثر إصابته بنوبة قلبية. عملها السابق كمعلمة في مدرسة خاصة كان يتيح لها إعالة أسرتها. إلا أن قرار طالبان إغلاق المدارس جعلها بلا عمل، فاضطرت إلى إعداد خبز البولاني وبيعه.
تضيف محب: "لم تفكر حكومة طالبان في كل التبعات الاجتماعية الناجمة عن قرار إغلاق المدارس، فضلاً عن الآثار النفسية على المدرسات والطالبات معاً"، مطالبة الحكومة بفتح مدارس الفتيات "في أسرع وقت ممكن كي تخرج البلاد من هذا المأزق وترتاح تلك الشريحة المظلومة نفسياً واجتماعياً ومعيشياً". وتلفت إلى أن لقرار إغلاق المدارس تبعات في جوانب مختلفة.
في السابق، كانت أحوال هدية أحمدي (56 عاماً)، مديرة مدرسة الحبيبية الشهيرة في أفغانستان، جيدة، كانت تتقاضى راتباً يتيح لها توفير احتياجات أسرتها. إلا أن وصول طالبان إلى الحكم في أغسطس/ آب عام 2021 غيّر أحوالها، حالها حال معظم المعلمات في أفغانستان. صبرت طويلاً وحاولت إيجاد حل لأزمتها المالية بعدما خسرت وظيفتها لكن من دون جدوى، إلى أن وجدت عملاً لا يليق بمستواها العلمي والاجتماعي. إلا أن الواقع أجبرها على ذلك.
تجلس أحمدي على قارعة الطريق الرئيسية بالقرب من مقر الرئاسة الأفغانية وتُنظّف أحذية المارة. تعمل من الصباح الباكر وحتى المساء لتكسب ما بين 200 و300 أفغانية (2.33 و3.49 دولارات) يومياً، وبالكاد توفر لأسرتها الخبز وبعض الاحتياجات الأساسية، وتشير إلى أنه خلال هطول الأمطار والثلوج بكثافة، لا تستطيع الخروج للعمل.
تقول في تسجيل مصور نشره ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي إن حالها كان جيداً، تعلّم وتدير المدرسة وتتقاضى راتباً مناسباً، إلا أن حياتها انقلبت رأساً على عقب في الوقت الحالي. قبل أشهر، وجدت نفسها مضطرة إلى العمل في تنظيف وتلميع الأحذية بسبب الفقر والعوز. ومع أنها لا ترى في العمل عيباً، إلا أن حالتها الصحية وعمرها يجعلان الأمر صعباً، لكن ما في اليد حيلة.
تضيف أنها باتت تعاني من اضطرابات نفسية بسبب الوضع المعيشي القاسي، إلى درجة أن أصوات السيارات والعاملين في السوق تزعجها، لكنها تواصل العمل رغم كل التحديات، وتشير إلى أن الأيام الصعبة هي التي تشهد تساقطاً كبيراً للأمطار والثلوج، ما يمنعها من العمل، وبالتالي تأمين احتياجات أسرتها المكونة من 14 شخصاً. وحتى خلال شهر رمضان الحالي، تضطر إلى العمل أو تُحرَم أسرتها من الطعام.
وترى محب، في حديثها لـ"العربي الجديد"، أن حالة أحمدي تمثل أحوال النساء اللواتي كن يعملن في مجال التعليم ثم حرمن من عملهن بسبب سياسات طالبان. تضيف أن "الأوضاع سيئة للغاية، وقصة هذه المعلمة هي خير دليل. فأحمدي لم تكن معلمة فقط بل كانت أيضاً مديرة لأشهر مدرسة في أفغانستان ساهمت في تخريج شخصيات بارزة. واليوم، تنظف الأحذية من أجل تأمين لقمة العيش. ما يحدث يجب أن يحث الشعب والحكومة والأثرياء والمؤسسات الخيرية على إيجاد الحلول".
إلى ذلك، يقول الزعيم القبلي الأفغاني مير أحمد خان، لـ"العربي الجديد"، إن "طالبان أغلقت المدارس لأن الآلية لا تتماشى مع الشريعة، ولكنها لا تحرك ساكناً إزاء مثل هذه المهن التي تمارسها المرأة الأفغانية في الأسواق. إن قضية هدية أحمدي وغيرها من المعلمات نموذج واحد، وهناك المئات من النساء اللواتي خرجن إلى السوق للعمل أو التسوّل. لكن بحكم الأعراف الاجتماعية والقيود الأفغانية، لا تكشف حالتهن. بالتالي، فإن إعادة فتح المدارس أفضل بكثير من الخروج إلى السوق للعمل أو التسوّل. وهذا ليس فقط أداء فريضة دينية وشرعية وأخلاقية، بل أيضاً مساعدة لهن للخروج من هذه الحالة السيئة".
ولم تذكر حكومة طالبان أرقام المعلمات في أفغانستان اللواتي حرمن من العمل بسبب إغلاق المدارس الثانوية، لكن وزارة التعليم في عهد الرئيس أشرف غني أعلنت قبيل الإنهيار أن عدد المدرسين في المدارس الحكومية هو 170.000 معلم ومعلمة، و33 في المائة من هؤلاء نساء في الأقاليم. أما في العاصمة كابول، فكانت نسبة المعلمات 78 في المائة كونهن يدرسن في مدارس البنين والبنات. وفي المدارس الخاصة، الأرقام أكبر من ذلك بكثير. ومعظم المعلمات حرمن من العمل بسبب إغلاق طالبان المدارس الثانوية.
وعلى الرغم من الضغوط الدولية والمحلية، إلا أن طالبان منذ سيطرتها على كابول في أغسطس/ آب 2021، أبقت المدارس الثانوية مغلقة، كما أغلقت الجامعات في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ومنعت النساء من العمل في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية. وفي ظل هذه السياسة، باتت المرأة الأفغانية في حالة معيشية ونفسية واجتماعية صعبة. كما جعلت طالبان نفسها في حالة حرجة وخصوصاً أنها تسعى للحصول على اعتراف دولي، لكن تعاملها مع النساء لا يتماشى مع ما يتطلع إليه العالم.
وعلى الرغم من الوعود بفتح المدارس الثانوية، تراجعت طالبان عن الأمر قائلة إن تلك المدارس ستبقى مغلقة إلى حين "وضع خطة تتعلق بالزي المدرسي تتوافق مع الشريعة الإسلامية".