يرفض بعض عائلات المفقودين في ليبيا فقدان الأمل في العثور على أحبائهم أحياء، وإن كان آخرون قد اختاروا أن يكونوا أكثر واقعية، خصوصاً بعد الكشف عن مقابر جماعية في البلاد
ما زالت المقابر الجماعية في مدينة ترهونة بمثابة جرح مفتوح بالنسبة لعشرات الأسر الليبية التي ما زالت تبحث عن مفقوديها، وسط جهود حكومية رسمية تسعى إلى إقفال هذا الملف. وتلقت الهيئة العامة للتعرف والبحث عن المفقودين الحكومية، بلاغاً من عائلات 330 مفقودا من مدينة ترهونة ومناطق جنوب طرابلس، وهي المناطق التي شهدت حرباً على مدى عام ونصف العام بسبب عمليات عسكرية هدف من خلالها اللواء المتقاعد خليفة حفتر إلى السيطرة على العاصمة.
لكن الهيئة حتى الآن لم تعلن إلا عن استخراج 115 جثة من 25 موقعاً، من دون أية معلومات عن بقية المفقودين. وتأمل عائلات هؤلاء العثور عليهم أحياء، حتى ولو كانوا أسرى في السجون.
ومنذ مطلع الشهر الجاري، ما زال معرض المتعلقات الشخصية التي وجدت مع ضحايا المقابر الجماعية، والذي افتتحته وزارة العدل في حكومة الوفاق الوطني، يستقبل أهالي المفقودين. وتردد فتحي الطرشاني ثلاث مرات على المعرض، كما يقول، علّه يجد بقايا ثياب أو مقتنيات لابن أخيه، المفقود في ترهونة منذ ديسمبر/كانون الأول 2018. يضيف لـ "العربي الجديد" أنه راض حتى بموته والعثور عليه في إحدى المقابر الجماعية، فذلك أسهل من المجهول.
ويقول: "كلّما خرجت من المعرض أعود إليه عسى أن يكون قد فاتني تفصيل ما". أما أم شوقي الدرهوبي، فقد زارت المعرض مرتين بسبب الإعلان عن العثور على جثث جديدة. تقول لـ "العربي الجديد": "عاودت الزيارة علّني أعثر على مقتنيات جديدة".
وفي الأسبوع الثاني من افتتاح المعرض، أعلنت وزارة العدل عن تعرّف بعض أسر ضحايا المقابر الجماعية في ترهونة على ذويهم من خلال متعلقاتهم الشخصية. وبينت الوزارة، في منشور عبر صفحتها على فيسبوك، أن عملية التعرف تمت بعد زيارة العديد من الأسر إلى معرض المتعلقات الشخصية التي وجدت مع ضحايا المقابر الجماعية، مشيرة إلى أنها سلمت تلك الأسر جثث أبنائها الذين تعرّفوا عليهم لدفنهم.
وبحسب الصفحة الرسمية للهيئة، فقد تم العثور على مقبرة جديدة انتشلت منها أربع جثث "مجهولة الهوية" مطلع الشهر الجاري. وفي نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، عثرت فرق الهيئة على مواقع جديدة، وكذلك في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حيث نقلت إدارة البحث عن الرفات في الهيئة عدداً من الجثث والأشلاء إلى مقرات الهيئة، التي تعاني نقصاً كبيراً في الإمكانيات، كما يؤكد الهادي طرينة، العامل في إدارة قيد الأهالي في الهيئة.
وعلى الرغم من أن قضية المقابر الجماعية أصبحت قضية رأي عام وتحظى باهتمام دولي، إلا أن طرينة يؤكد، خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، أن أجهزة تحليل الحمض النووي لم تتوفر لإدارة المختبرات إلا مؤخراً.
ويشكو طرينة النقص الكبير في المواد الأساسية للتعرف على الرفات والجثث، لافتاً إلى أن فرق الهيئة سحبت أكثر من 300 عينة من أهالي المفقودين لمقارنتها بنوع الحمض النووي في الجثث والرفات التي عثر عليها في المقابر الجماعية، لكن تلك التجهيزات لم تصل كاملة حتى الآن، على حد قوله.
وعلى الرغم من أنه قدم وأفراد أسرته عينات من الحمض النووي إلى فرق الهيئة، إلا أن عبد الحميد الدرويش لم يتوقف عن الاتصال بمعارفه شرق البلاد بهدف التواصل مع المليشيات التي نقلت معها عشرات الأسرى من قبل قوات حكومة الوفاق الوطني، علّه يعثر على ابنه المفقود. وينتظر الدرويش، كما يقول لـ "العربي الجديد"، جهود اللجان العسكرية من قبل الطرفين في إطار تبادل الأسرى الذي تشرف عليه الأمم المتحدة، علّه يعرف شيئاً عن ابنه المفقود منذ سبتمبر/أيلول عام 2018، أثناء قتاله في صفوف قوات حكومة الوفاق الوطني.
وحتى نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، تبادلت لجان اجتماعية بالتنسيق مع الأمم المتحدة واللجنة العسكرية المشتركة 5+5 (تم الاتفاق عليها في مؤتمر برلين حول ليبيا في 19 يناير/كانون الثاني 2020 الماضي، لتثبيت وقف إطلاق النار في طرابلس وغرب ليبيا، والذي أُعلن في يناير/كانون الثاني 2020)، أكثر من خمسين أسيراً لدى مليشيات حفتر، لكن زايد بن سلامة يبدو متأكداً من أن صهره من بين القتلى، وأن المقابر التي ما زالت مجهولة تضم رفاته.
وفقد صهر زايد، الذي ينتمي لقبيلة معارضة لسيطرة مليشيا "الكانيات" على المدينة، منذ أوائل اندلاع حرب حفتر على طرابلس. يقول لـ "العربي الجديد" إن "مليشيات الكاني وجدت قوة ودعماً في وصول حفتر إلى المدينة وقامت بحملة اعتقالات واسعة. لذلك، لا أعتقد أن صهري ما زال حياً حتى الآن بعد مرور كل هذه الأشهر"، لافتاً إلى أن عمل اللجان الحكومية ركز على الجثث التي عثر عليها داخل المستشفيات وفي الأراضي التي تكثفت فيها المقابر الجماعية. ويعتقد أن مليشيات حفتر دفنت جثث المعارضين في أماكن أخرى خلال أول أيام حملتها العسكرية.
ورغم تنظيم أهالي المفقودين عشرات الاحتجاجات والوقفات داخل ترهونة وفي طرابلس، إلا أن التجاوب الحكومي يبدو متصلاً بالمواقف السياسية والخصومات بين قادة الأطراف. ويشير بن سلامة إلى أن قرارات صدرت عن حكومة الوفاق الوطني أوقفت لجاناً تابعة لوزارة العدل تشرف على قضية المقابر الجماعية بتهمة عرقلتها لدفع ملف المقابر إلى المحاكم الدولية.
ورغم الاهتمام الدولي والحكومي الليبي بالحادثة، إلا أن أسرة وحيدة من ترهونة ما زالت تبحث عن مصير ابنها عبد العزيز، المغيب منذ بداية الحرب على طرابلس أيضاً. يقول سالم وحيدة، والد عبد العزيز، إنه "مدني وشاب لا قدرة لديه على حمل السلاح، اعتقل عند حاجز أمني تابع لمليشيات حفتر دونما سبب". وأثناء اعتقاله، اتصل به ليبلغه باعتقاله بكلمات موجزة قبل أن يقفل الهاتف نهائياً.
ويعلّق سالم، في حديثه لـ "العربي الجديد"، أنه رغم طول المدة، "ما زلنا نعيش على الأمل، لأن ابني لم يشارك في القتال وسنه لا يمكّنه من حمل السلاح"، مرجحاً أن يكون من بين أسرى الحرب وأن يعود. أما بن سلامة، فيرى أن مرور الوقت يؤكد مقتل صهره. يضيف: "افتتاح معرض مقتنيات قتلى المقابر سد باب الأمل الذي كانت تعيشه الأسر. لقد كان وقع خبر افتتاحه سيئاً جداً".