بعدما سعت حكومات في أوروبا وآسيا وكذلك روسيا في خلال السنوات الماضية إلى تشجيع السكان على الإنجاب، خشية على مستقبل مجتمعاتها، فإنّها تجد نفسها اليوم أمام تحدّ كبير. فالولادات انخفضت مذ بدأ فيروس كورونا الجديد بالتفشي في العالم.
سُجّل في دول عدّة حول العالم تراجع في نسب الخصوبة والولادات، بخلاف ما كان متوقعاً وسط أزمة كورونا. على سبيل المثال، تراجع عدد الولادات في روسيا بنحو 49 ألف ولادة، علماً أنّ عدد سكان البلاد 144 مليون نسمة. والأمر مشابه في إسبانيا والسويد وفرنسا واليابان وغيرها من الدول، وفق بيانات "قاعدة بيانات الخصوبة البشرية". ويأتي ذلك متزامناً مع خسارة نساء كثيرات وظائفهنّ في ظلّ الجائحة، مع تزايد العنف الأسري بحقهنّ، كما كانت الحال في إقليم هوبي بالصين حيث بدأ فيروس كورونا الجديد تفشّيه، وفقاً لبيانات مجلة "ذي ديبلومات" المتخصصة في أخبار المحيط الهادئ. وتدفع المرأة عموماً الثمن الأغلى وسط الجائحة، لجهة زيادة العنف ضدها، كذلك تتحمّل تبعات التراجع في الاقتصادات من خلال فقدان الوظائف واختلال المساواة في سوق العمل وفي الأعمال المنزلية. في مصر، يشكو النظام بشكل متكرر من أنّ تحديد النسل لا يجد آذاناً صاغية لدى الشعب، فيما يمتعض السياسيون في اليابان من تقصير شعبهم في إنجاب مزيد من الأطفال. وليست طوكيو وحدها التي راهنت على أن يكون 2020 عاماً لمزيد من الحمل مقارنة بالعام الذي سبقه.
والإحصاءات المرتبطة بزيادة السكان ونسب الإخصاب في زمن كورونا، تعطي صورة متشائمة لمجتمعات تحتاج إلى زيادة عدد سكانها بهدف موازنة عدد الوفيات والشيخوخة، بحسب ما تظهر تقارير أوروبية وغيرها حول العالم.
حكومات عديدة راهنت على اشتمال عام 2020 طفرة في الولادات، لكنّ الأرقام مثّلت "كابوساً" لمجتمعات تستثمر في الأساس في البشر، إذ إنّها تتوجّه صوب شيخوخة حتمية وانخفاض اليد العاملة الشابة مستقبلاً. فالعزلة والأوقات التي قضاها الأزواج في المنزل مع غياب المناسبات العامة من حفلات وخروج إلى المسارح والمطاعم ودور السينما، بسبب تفشي الفيروس، لم تؤدّ إلى تنامي الأسر حول العالم، بحسب قاعدة بيانات الخصوبة البشرية. أوروبا على سبيل المثال راهنت على طفرة ولادات كتلك التي شهدتها مع دول أخرى حول العالم، في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945.
وينقل موقع "هاف بوست" الأميركي عن إميلي سميث غريناوى أستاذة علم الاجتماع في جامعة جنوب كاليفورنيا الأميركية، أنّ الجائحة لم تؤدّ إلى طفرة في الولادات، بل سُجّل انهيار في إنجاب مزيد من الأطفال، إلى جانب عواقب وخيمة من قبيل زيادة البطالة والعمل المزدوج في البيوت والعنف الجسدي وكذلك النفسي واجهتها النساء في مجتمعات العالم الغربي وأفريقيا وآسيا. وقد أعادت غريناوى تراجع الولادات إلى "الانكماش الاقتصادي والمخاوف الصحية المستمرة وعدم اليقين بشأن الرعاية الطبية وإغلاق المدارس".
وكان استطلاع أوروبي للرأي قد أظهر في صيف العام الماضي أنّ 50 في المائة من الأزواج الذين خططوا لإنجاب أطفال في ألمانيا وفرنسا أجّلوا خطتهم، فيما ذهب 37 في المائة في إيطاليا إلى إلغاء الفكرة تماماً. فحالة غياب اليقين في زمن كورونا خلقت جواً غير مبشّر في 2020 بالنسبة إلى مشاريع الحمل التي تصل إلى خواتيمها في عام 2021.
وتدنّت النسب في كوريا الجنوبية، وهي واحدة من الدول التي عانت في السنوات الأخيرة من تراجع الولادات والاتجاه نحو مجتمع شائخ. فتراجعت الأعداد من نحو 302 ألف ولادة في عام 2019 إلى 272 ألفاً في عام 2020، مع توقع استمرار التدني أكثر هذا العام. وليس وضع فرنسا أفضل حالاً من كوريا الجنوبية، فهي التي ضربها الوباء بقوة سجّلت انخفاضاً في الولادات بمقدار 17 ألفاً تقريباً في عام 2019. من جهتها، سجّلت الولايات المتحدة الأميركية تراجعاً بمقدار 142 ألفاً تقريباً مقارنة بعام 2019. وإلى جنوبي القارة الأميركية، سجّلت تشيلي تراجعاً بمقدار 20 ألفاً مقارنة بعام 2019.
وتشير التحديثات الشهرية للخصوبة البشرية إلى أنّ الانخفاض يبدو مستمراً، ليس فقط على المدى القصير إنّما الطويل كذلك من خلال رصد وتحليل عواقب الوباء العالمي المستمر في ما يخصّ اتجاهات الخصوبة على مستوى سكان العالم. وثمّة مجتمعات وضعت خططاً استراتيجية لزيادة ولاداتها، غير أنّ الجائحة أتت لتضرب مخططاتها بقوة. ونرى أنّ تايوان المصنّفة من بين الأقل إنجاباً بالإضافة إلى كوريا الجنوبية سجّلتا نحو 20 ألفاً و800 وفاة أكثر من الولادات في عام 2020، ما يعني أنّها المرة الأولى في تاريخ البلدَين التي يفوق فيها عدد الوفيات عدد الولادات.
بالنسبة إلى خبراء في مجال الخصوبة والإنجاب فإنّ تراجع الولادات بات حالة مشتركة في أكثر من دولة في شرق آسيا، وهو ما دفع رئيس وزراء اليابان السابق شينزو آبي إلى توسّل شعبه الإنجاب أكثر، وعدّ التراجع "أزمة قومية". والمخاوف تستند إلى توجّه المجتمعات نحو الشيخوخة، خصوصاً في اليابان وكوريا الجنوبية اللتَين تعتمدان على الموارد البشرية لتحقيق تقدّم تقني واقتصادي. ففي شرق آسيا، أدّت أزمة كورونا من خلال الإغلاقات التي فرضتها إلى تراجع رعاية الصغار في حضانات الأطفال، وكذلك التعارف وإيجاد شركاء حياة للزواج مع اتساع نطاق الصرف من الأعمال وانتشار البطالة. وعلى الرغم من توفّر لقاحات في هذه الأيام، فإنّ المخاوف تبقى قائمة لعدم معرفة تأثيرها على الحوامل. وهو جزء من الأسباب التي تدعو النساء إلى عدم الرغبة في الحمل.
إلى جانب آسيا، لا يبدو الوضع مبشراً في القارة الأوروبية بحسب أرقام 2020 وبحسب التوقعات العلمية لعام 2021. وليست فرنسا وإيطاليا وإسبانيا التي تعاني من التراجع فحسب، ففي إسكندينافيا نجد أنّ الدنمارك تتّجه أكثر فأكثر حتى منذ ما قبل الجائحة إلى تناقص ملموس في نسب الولادات. وتشير خبيرة الخصوبة في المستشفى الوطني بكوبنهاغن، آنيا بينبورغ، إلى أنّ "عائلات كثيرة عاشت عدم يقين في أثناء الجائحة، خصوصاً تأثيرها على مستقبل الأطفال". ولاحظت في تصريحات صحافية أنّ مراجعة الأزواج الراغبين في معالجة مشاكل الحمل تراجعت في خلال العامين الماضيين.
يُذكر أنّ ثمّة قضية شغلت الرأي العام الدنماركي وهي تراجع الحيوانات المنوية لدى الذكور في خلال العقدَين الأخيرَين، وهو ما يضطر كثيرين من الراغبين في الإنجاب إلى تلقي علاجات في عيادات عامة وخاصة. وكان كثيرون يتّجهون نحو التبني من الخارج بعد استحالة الحمل، وهو أمر صار أكثر تعقيداً وشهد تراجعاً منذ ما قبل الجائحة التي جاءت لتفاقمه أكثر. أضافت بينبورغ أنّه في الربع الأول من عام 2021، شهدت عيادة الخصوبة في المستشفى الوطني زيادة طفيفة في عدد الراغبين في تلقي علاج ومساعدة من أجل الحمل، "لكنّ هذا لا يعني أنّ الدنمارك سوف تشهد طفرة في الولادات".
انخفاض الرغبة في الإنجاب لدى نساء دول عدّة يعيده كذلك مراقبون إلى واقع أنّ الجائحة أدّت إلى اتساع الفجوة في ما يخصّ المساواة بين الجنسَين، بالإضافة إلى آثار الإغلاقات على النساء. وبحسب دراسة أعدّها المنتدى الاقتصادي العالمي، فإنّ غياب المساواة تفاقم في خلال الجائحة، خصوصاً لدى النساء العاملات في مجال الرعاية والتمريض والمساعدة المنزلية، اللواتي هنّ "في الخطوط الأمامية" لمواجهة كورونا. فهؤلاء بتنَ يعانينَ من زيادة في العمل المزدوج. وأوضح التقرير الصادر عن المنتدى في دافوس السويسرية نهاية مارس/ آذار الماضي، أنّه "كان للوباء أثره في اتساع فجوة المساواة بين الجنسَين، وينطبق ذلك على العمل والمنزل". وأشارت مديرة المنتدى سعدية زهيدي في مقدمة التقرير إلى أنّ العالم "شهد تراجعاً في المساواة بعد أعوام من التقدّم في المجال".
من جهتها، بيّنت منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة في تقارير لها أنّ معدل توظيف النساء في عام 2020 انخفض بنسبة خمسة في المائة في مقابل 3.9 في المائة لدى الرجال. لكنّ كثيرين يقدّرون أنّ الرقم الحقيقي أكبر من ذلك بكثير، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ النساء في دول عدّة، خصوصاً في آسيا وأفريقيا، يعملنَ في وظائف وأعمال غير مستقرة، ولا يتمّ تسجيلهنّ دائماً في سوق العمل. ولا يشمل هذا فقط آسيا وأفريقيا بل يمتد إلى أوروبا حيث تأثرت النساء بالجائحة، خصوصاً في الدول السياحية مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا. فقد طاولت آثار الجائحة نحو ثلاثة آلاف مرشدة سياحية فرنسية، في غياب السياح الذين يغطّون نسبة معتبرة في الدخل القومي للبلاد. ويبدو الوضع قاتماً لجهة الاستمرار في العمل والتحفيز أصلاً لإنشاء أسرة. وينسحب ذلك على أميركا اللاتينية وبعض دول العالم الثالث التي تعمل فيها النساء في قرى صغيرة في مجال الحرف اليدوية، لا سيّما تلك التي يبتاعها السياح كتذكارات.
وتفيد تقارير أخرى بأنّ العنف الأسري زاد أكثر من زيادة الإنجاب في خلال الجائحة. ومن اللافت أن تشهد الصين، خصوصا إقليم هوبي الذي يُعتقد أنّه موطن فيروس كورونا الجديد، زيادة في العنف ضد الزوجات في عام 2020 مقارنة بعام 2019، أقلّه بحسب تقرير مجلة "ذي ديبلومات". وتشيرت المجلة إلى أنّ الصين تعاني من جرّاء "وباء خفي"، إذ سُجّلت في فبراير/ شباط 2020 زيادة في العنف الأسري بثلاثة أضعاف مقارنة بالعام الذي سبقه. صحيح أنّه لم يُصر إلى الإبلاغ عن كل حالات العنف، إلا أنّه لم يعد يُخفى في زمن كورونا، بالتالي لم يعد يُعمل بحسب المثل الصيني القائل "لا تغسل الكتان المتّسخ في الأماكن العامة" أي لا تنشر مشاكل الأسرة في الفضاء العام. وتشرح "ذي ديبلومات" إلى أنّ "هذا النوع من العنف في الصين يُعرف بأنّه شأن أسري خاص ولا يدخل في سياق حقل العمل الاجتماعي العام".
كذلك شهدت البرازيل التي يضربها الوباء بشدة، زيادة كبيرة في العنف الأسري، وهو ما أدّى إلى زيادة في لجوء المعتدى عليهنّ إلى ملاجئ خاصة بالمعنّفات بنسبة 50 في المائة، بحسب تقرير لصحيفة "ذي غارديان" البريطانية. أتى ذلك في الأيام القليلة الأولى من إغلاق البلاد. حتى فرنسا شهدت زيادة في العنف الأسري بنسبة 40 في المائة في ربيع عام 2020 مقارنة بعام 2019 الذي سبقه، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة "لوموند" الفرنسية حينها. وعادت الصحيفة لتؤكد في تقرير حديث لها في يناير/ كانون الثاني الماضي أنّ النسبة ارتفعت مع الإغلاق الثاني إلى 60 في المائة.