تزداد عمليات صدّ المهاجرين طالبي اللجوء وطردهم في أوروبا، في إطار إجراءات "غير قانونية" تصفها منظمة العفو الدولية بأنها "انحدار". وشمل آخرها 40 ألف مهاجر وصلوا إلى بولندا ودول البلطيق في مايو/ أيار الماضي. وتبرر سلطات هذه الدول سياساتها القاسية مع من يحاولون الوصول إلى أوروبا بمتطلبات التصدي لمحاولة إغراق الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو القارة العجوز بالمهاجرين، رداً على العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على نظامه، علماً أن حدود بيلاروسيا مع الدول الأوروبية تشهد تكدس آلاف المهاجرين الذين سهّلت مينسك قدومهم من أفغانستان وبلدان عربية وأفريقية، في ظل مواجهتهم ظروفاً غير إنسانية لا تفرّق بين نساء وأطفال ومسنين ومرضى.
وإلى جانب تمديدها تدابير حال الطوارئ على حدودها، والتمسك بسياستها المتشددة في عدم قبول درس طلبات المهاجرين طالبي اللجوء أو السماح بعبورهم أراضيها في طريقهم إلى باقي أنحاء أوروبا، باتت بولندا تتخذ إجراءات ممنهجة مع دول البلطيق، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، على صعيد صدّ المهاجرين وإعادتهم إلى نقاط انطلاقهم، ما يجعل هذه الدول تحذو حذو اليونان في تنفيذ ممارسات قاسية ضد المهاجرين على حدود مسار دول البلقان، حيث يعيش آلاف منهم منذ أشهر في ظروف صعبة.
واللافت أن قوانين المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تعتبر هذه السياسات "غير قانونية"، خصوصاً على صعيد رفض النظر في طلبات اللجوء، لكن يبدو أن تدبير الصدّ يلقى قبولاً أوروبياً خلف ستار التصريحات المنددة بظروف المهاجرين على الحدود والانتقادات الموجهة بتلاعب لوكاشينكو بمصيرهم.
ليتوانيا والطرد
وعلى غرار بولندا، باشرت ليتوانيا ترحيل وطرد أكثر من أربعة آلاف مهاجر طالب لجوء على أراضيها منذ أسابيع إلى حدود بيلاروسيا، علماً أن رقم طالبي اللجوء فيها كبير جداً مقارنة بدخول 81 شخصاً أراضيها في عام 2020. وغالبية من تشملهم سياسة الصدّ الليتوانية عراقيون، إلى جانب عدد من السوريين والأفغان والأفارقة الذين تقطعت بهم السبل بعدما وعدت سلطات بيلاروسيا بتأمين انتقال سلس لهم من بلدانهم إلى أوروبا، في إطار عمليات منظمة وغير مجانية تلحظ وصولهم إلى مينسك في مرحلة أولى، ثم نقلهم عبر حافلات إلى الحدود.
وكان موقع "بوليتيكو" الأميركي قد أفاد في تقرير نشره في 24 أغسطس/ آب الماضي، بأن "لوكاشينكو يستخدم المهاجرين كسلاح لمواجهة الخناق الاقتصادي الأوروبي المفروض على نظامه، وتحويلهم إلى مسألة مربحة مالياً لمينسك". وقد أبلغ مصدر حكومي في لاتفيا "بوليتيكو" أن السفر من دول (من بينها المغرب) إلى بيلاروسيا بهدف الوصول إلى الاتحاد الأوروبي "مسألة تجارية تراوح كلفتها ما بين 2000 يورو (نحو 2365 دولاراً أميركياً) و3000 يورو (نحو 3555 دولاراً)، وتشمل مرافقة وحدات عسكرية نظامية لمنفذ الرحلة إلى الحدود".
ومن المؤكد أن التدفق الكبير إلى أراضيها جعل ليتوانيا تتخذ خطوات صارمة على حدودها، بدعم مباشر من دول أوروبية ساعدتها في وضع أسلاك شائكة على طول كيلومترات، وبناء جدران، وهو ما فعلته كوبنهاغن أخيراً عبر نشر أسلاك على طول 15 كيلومتراً من حدودها مع بيلاروسيا. وترافق ذلك مع مطالبة سياسيين في هذا البلد بضرورة حصول إجراءات الطرد التي تنفذها على غطاء سياسي وقانوني علني من الاتحاد الأوروبي.
وتنفذ ليتوانيا إجراءات نقل منظمة للمهاجرين الذين يمكثون في مدارس ومبانٍ مهجورة وغير صالحة للسكن في مدينة كازيتيسكس المحاذية للحدود مع بيلاروسيا، حيث يخضعون لحراسة أمنية مشددة، ولا يسمح لهم بالتواصل مع العالم الخارجي، من أجل دفعهم بالقوة إلى حدود بيلاروسيا التي لا تأبه بدورها لوضعهم المأساوي، مع افتقارهم إلى الأدوية والطعام والملابس الدافئة الضرورية في الأحوال الجوية الباردة التي سببت الوفاة لخمسة منهم حتى كتابة هذه الأسطر.
مطالبة بغطاء أوروبي
ومع تزايد انتقادات عمليات الصدّ التي تنفذها ليتوانيا، بررت وزيرة داخليتها آني بيلوتايت الخطوات بأنها "ناتجة من وضع قائم لا يحتمل، ويحتم منع الناس من دخول بلدنا في شكل غير قانوني"، علماً أن بلادها تطالب الاتحاد الأوروبي بتشريع الإجراءات التي تسمح بمواصلة طرد الوافدين عبر بيلاروسيا.
وفي أغسطس/ آب الماضي، وصفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين دفعَ نظام لوكاشينكو المهاجرين إلى حدود دول البلطيق وبولندا، بأنه "هجوم يهدف إلى زعزعة استقرار أوروبا"، واتهمته "بتعمد جلب أناس من دولهم الأصلية على متن طائرات لتحقيق هذا الهدف".
وقد طالبت دول البلطيق بدعم مالي مستعجل من الاتحاد الأوروبي واستخدام مزيد من أمواله لبناء جدران ونشر أسلاك، في إطار سياسة أوسع تعتمدها القارة لتحصين حدودها الخارجية التي باتت أشبه بقلاع خلف آلاف الكيلومترات من الجدران الحدودية، وعمليات الصدّ البحري في المتوسط وبحر إيجه.
ويرى محللون أن قلق المفوضية الأوروبية من سياسة "إغراق" بيلاروسيا القارة بالمهاجرين، يجعلها تتساهل مع التصرفات القاسية لدول البلطيق وبولندا ضدهم، ورفضهما استقبال من تقطعت بهم السبل على الحدود، على الرغم من تكدس نساء وأطفال في مناطق بين بيلاروسيا وحدودها. وكان المفوض الأوروبي للجوء والهجرة مارغريتس شيناس، قد علّق على تطبيق ليتوانيا سياسة صدّ المهاجرين وطردهم، قائلاً إن "الاتحاد الأوروبي ما زال يبحث تطبيق سياسة أكثر صرامة في التعامل مع التدفق على حدوده". وشدد على أن "مينسك تستغل آلاف البشر اليائسين، وتضعهم في باصات ترافقها سيارات للشرطة، وترميهم على الحدود كي يواجهوا مصيرهم بأنفسهم".
انتقادات حقوقية
من جهتها، رأت منظمة العفو الدولية أن "ما يجري مع آلاف الناس العالقين على حدود الاتحاد الأوروبي، وميل الاتحاد إلى القبول بعمليات الصدّ التي يتعرضون لها، يمثل "انحداراً لا مثيل له في عدم احترام حقوق الإنسان". وطالب مدير مكتبها في الدنمارك مارتن ليمبرغ بيدرسن الاتحاد الأوروبي بـ"تجنب إضفاء شرعية على عمليات الطرد غير القانونية بحسب التشريعات الأوروبية الخاصة بالمهاجرين طالبي اللجوء، ما يجعلها عمليات طرد جماعية. ونذكر بأهمية دعم الحقوق حين تنشأ أزمة، لا انتهاكها".
والأسبوع الماضي، وثقت منظمة العفو الدولية إعادة السلطات البولندية 34 أفغانياً، من بينهم نساء وأطفال، إلى بيلاروسيا التي لم تسمح بدورها بدخولهم، على الرغم من أن جيشها ساعدهم في بلوغ الحدود بعدما وصلوا من باكستان بتسهيلات من نظام لوكاشينكو. وهم يعانون من أوضاع مزرية، إذ تنعدم الخدمات الصحية ويصعب حصولهم على طعام ومياه للشرب بشكل دائم. وطالبت المنظمة بأن تتقاسم الدول مسؤوليات توزيع المهاجرين طالبي اللجوء العالقين على حدود أوروبا.
لا اكتراث أوروبياً
وفي خلال الأشهر الماضية، كشفت تقارير عدة وتسجيلات مصورة انتهاكات نفذها رجال شرطة وعناصر من حرس الحدود في أوروبا ضد مهاجرين طالبي لجوء، خصوصاً في اليونان التي تعمد عناصر جهاز خفر سواحلها طرد قوارب مهاجرين وإغراق بعضها باستخدام آلات حادة، ما عرّضهم لخطر الموت غرقاً.
وانتقدت منظمات حقوقية مختلفة بينها منظمة العفو الدولية عدم اكتراث حراس الحدود الأوروبيين بوجود أطفال ونساء ومسنين في خلال تنفيذهم تدابير الطرد بأساليب قاسية، ومحاولات دفعهم إلى العودة من حيث أتوا. ويثير صمت سياسيين في الاتحاد الأوروبي نهج صدّ المهاجرين طالبي اللجوء والتعامل القاسي معهم مخاوف في القارة من مقدار التزام التكتل الأوروبي معايير قوانينه الخاصة بحقوق الإنسان.
وكان تقرير نشرته صحيفة "ذي غارديان" البريطانية في مايو/ أيار الماضي قد أشار إلى أن "الاتحاد الأوروبي نفذ نحو 40 ألف عملية صدّ غير قانونية لمهاجرين حصدت نحو ألفي وفاة في خلال أزمة كورونا، ما يشير إلى اتساع رقعة التسامح الأوروبي تحت غطاء التصريحات المعلنة التي تتناول موضوع العمليات المنفذة".
ومع تزايد عمليات الصدّ صيف العام الحالي، تتزايد مآسي حركة العبور نحو دول الاتحاد الأوروبي، سواء بالنسبة إلى من يحاولون عبور المياه الفاصلة بين شمال أفريقيا والشواطئ التركية، وصولاً إلى سواحل شمال المتوسط الأوروبية، أو الذين تتقطع بهم سبل التهريب في مسار البلقان.
تمويل بناء حواجز
وكانت 12 من الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بينها النمسا واليونان وبولندا والمجر، قد طلبت من المفوضية الأوروبية تمويل بناء حواجز على حدودها لمنع دخول المهاجرين، وذلك في رسالة اطلعت عليها وكالة "فرانس برس"، الجمعة. وردّت المفوضة الأوروبية للشؤون الداخلية، إيلفا يوهانسون، التي وُجهت الرسالة إليها، بأنّ البلدان تمتلك "إمكانية بناء أسوار والحق في ذلك". وأضافت يوهانسون، في مؤتمر صحافي في ختام اجتماع لوزراء الداخلية في دول الاتحاد في لوكسمبورغ: "لست ضد ذلك، لكن في ما يتعلق باستخدام الأموال الأوروبية المحدودة لتمويل بناء الأسوار، بدلاً من أمور أخرى لا تقل أهمية، فهذه مسألة أخرى". ورأت أنه "لم يكن تقديم مقترحات جديدة فكرة جيدة"، بينما ما زالت المقترحات المتعلقة بميثاق الهجرة واللجوء، وهي خطة إصلاح اقترحتها المفوضية، تثير انقساماً بين الدول الأعضاء و"مطروحة على الطاولة".
وقال وزراء الدول الـ12 الموقّعة على الرسالة إنّ "حاجزاً مادياً يبدو إجراء فعالاً لحماية الحدود، يخدم مصالح الاتحاد الأوروبي بأسره، وليس فقط الدول الأعضاء الواقعة على الخط الأول". وأكّدوا في رسالتهم، التي أرسلوا نسخة منها أيضاً إلى نائب رئيسة المفوضية، مارغريتيس سخيناس، أنّ "مراقبة الحدود لا تمنع محاولات العبور بشكل غير قانوني". وأضافوا أنّ "هذا الإجراء الشرعي يجب أن يحصل على تمويل إضافي وكافٍ في الميزانية الأوروبية".