تلوث مياه الشرب ليس بالمسألة الجديدة بالنسبة إلى تونس، لا سيما على مستوى السدود والأودية (الأنهار). وأثار الوضع البيئي في نهر باحة الذي يصب في سد سيدي سالم، شمالي البلاد، جدالاً واسعاً في البلاد. وقد أُثيرت القضية بعدما نشر النائب في البرلمان، بدر الدين القمودي، تدوينة أشار فيها إلى أنّه عاين المياه في السد بمحافظة باحة والتي تزوّد العاصمة والشمال الشرقي والساحل وصفاقس بمياه الشفة، مشيراً إلى أنّ محطة التطهير بباجة تضخ المياه الملوّثة من دون معالجتها وهي غير صالحة للشرب.
وبعد الجدال الكبير حول مياه سد سيدي سالم، طالب رئيس الحكومة هشام المشيشي بتكليف كل من وزير الشؤون المحلية والبيئة بالنيابة ووزير الفلاحة بالنيابة والمؤسسات العمومية ذات الصلة بتقديم تقرير حول تلوث مياه السد، موصياً بتحميل الأطراف كافة مسؤوليتها القانونية في حال ثبت التلوث.
وكانت إدارة البيئة وجودة الحياة في وزارة البيئة قد أشارت إلى أنّ مياه الصرف الصحي بمعظمها معالجة بواسطة محطات التطهير ومن المفترض أنّ هذه المياه تستجيب للشروط وهو ما سيتم التأكد منه. وأوضحت الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه في رد على المزاعم بتلوث النهر أنّه "بمقتضى اتفاقية تُجدّد كل ثلاث سنوات توفر شركة استغلال قناة وأنابيب مياه الشمال الحاجيات من المياه الخام للشركة، وذلك بعد معالجتها طبقاً للتقنيات والأساليب المعتمدة عالمياً". أضافت أنّه "يتمّ التزود من هذه المياه انطلاقاً من قناة مجردة بالوطن القبلي، الذي تجمع فيه مياه أهم سدود الشمال. وتمر عملية معالجة المياه الخام عبر التصفية والتعقيم والتخثير والترسيب ثم التعقيم النهائي". أضافت الشركة أنّه "أُجري 21293 تحليلاً بمركب معالجة المياه (مادة كيميائية للمعالجة) سنة 2020 في غدير القلة، إضافة إلى 1472 تحليلاً بمركب معالجة المياه كانت نتائجها مطابقة للمواصفات التونسية بالنسبة للمياه الخام، وأيضاً بالنسبة للمياه المعالجة والصالحة للشرب. أما سنة 2021 وإلى اليوم، فقد أُجري فيها 5060 تحليلاً بالنسبة لمركب المعالجة بغدير القلة و128 تحليلاً بالنسبة لمركب المعالجة ببلي". على الرغم من ذلك يشير العديد من الخبراء في مجال الموارد المائية إلى ضرورة تكثيف مراقبة محطات تطهير ومعالجة المياه إلى جانب القيام بالعديد من التحاليل الدورية.
من جهته، أشار مرشد قربوج، الخبير في البيئة وعضو جمعية "أس أو أس بيئة"، لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ الجمعية أعدّت في السنوات الماضية دراسات خلصت إلى أنّ "مصانع عدّة تفرز مياهاً ملوثة من دون معالجتها، ما يؤدي إلى تسربها إلى المياه الجوفية وبالتالي إلى الآبار وبعض الأنهار والأراضي الزراعية". ويؤكد أنّ "جدال تسرب مياه الصرف الصحي إلى بعض الأنهار ليس بجديد في تونس"، مطالباً بـ"تشديد المراقبة على المصانع ومحطات معالجة المياه".
في سياق متصل، بيّن تقرير أعدّته منظومة متابعة وحماية الملك العمومي للمياه الذي صدر أخيراً عن وزارة البيئة أنّ "الأعوان (الموظفين) المحلفين والمكلفين بالمراقبة نظّموا في خلال الفترة المتراوحة بين سنتي 2016 و2020 ما يناهز 170 محضر مخالفة في المنطقة المعنية وجهت إلى القضاء، إلى جانب 90 طلب إرشاد حول مخالفات وجّهت إلى السلطات الأمنية". وأشار إلى "بروز إشكالات عدّة في السنوات الأخيرة تتمثل أساساً في تعدد مصادر تلوث المياه، وضعف وتشتت منظومة متابعة وحماية الملك العمومي للمياه، وعدم تحديث أحكام زجر الاعتداءات عليه منذ صدور مجلة المياه (أي قانون المياه) لسنة 1975، والتي لم تعد متلائمة مع المرحلة الحالية والمستقبلية، ولا تستجيب لضروريات التنمية الاقتصادية والصحية والاجتماعية والبيئية للبلاد، وقد تم إعداد مجلة مياه جديدة هي بصدد المناقشة بمجلس نواب الشعب".
يُذكر أنّ البرلمان يناقش منذ سنة 2019 مشروع مجلة المياه التي ستعد إطاراً تشريعياً للمياه يُنظم استعمالها ويوجب إحكام استغلالها وحمايتها كماً ونوعاً، بالإضافة إلى سنّ القوانين الردعية المتعلقة بأيّ تجاوز قد يلحق الأضرار بالثروات المائية.
ويؤكد محمد بن سقة وهو خبير في الموارد المائية لـ"العربي الجديد" أنّه "أمام نقائص أحكام مجلة المياه الواردة سنة 1975 في تنظيم التصرف المحكم في مجال المياه وعدم تلاؤمها مع المتغيرات والمعطيات الحالية، إضافة إلى عدم تحديث الجانب الردعي المتعلق بالجرائم والعقوبات، فإنّ مشروع مجلة المياه الجديدة سيدعم الإطار المؤسساتي للتصرف والمحافظة على الموارد المائية بدرجة أولى عبر المجالس الجهوية للمياه لدراسة المسائل المتعلقة بالتصرف في الموارد المائية على مستوى الجهة، إضافة إلى الهيئة الوطنية التعديلية لخدمات المياه التي تكلف بتقييم وتعديل الخدمات العمومية المقدمة في قطاع المياه، وذلك لضمان التوزيع العادل للماء على المواطنين ونجاعة استعمال الماء في مختلف المجالات، إلى جانب سنّ القوانين الردعية والتشريعات اللازمة لحماية الموارد المائية من أيّ استغلال غير قانوني، أو من أيّ أضرار قد تلحقها المؤسسات أو الأشخاص ببعض المصادر الرئيسية لمياه الشرب".