نازحون ذوو إعاقة... معاناة مضاعفة في مراكز الإيواء

25 أكتوبر 2024
في أحد مراكز النزوح بالعاصمة اللبنانية بيروت، 9 أكتوبر 2024 (حسين بيضون)
+ الخط -
اظهر الملخص
- يعاني الأشخاص ذوو الإعاقة في لبنان من تهميش متزايد، خاصة خلال النزاعات والنزوح، حيث تفتقر مراكز الإيواء للبنية التحتية المناسبة، مما يزيد من صعوبة تلبية احتياجاتهم.
- أطلقت منظمات مثل الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً برامج طوارئ لدعم النازحين، تشمل حملات تبرعات وتوعية، مع التركيز على معايير مراكز الإيواء.
- تتنوع قصص المعاناة، مثل الحاجّة صباح خليل التي تعاني من صعوبة الحركة، وتواجه أسر أخرى تحديات في توفير الرعاية الصحية والاحتياجات الأساسية.

يوصَف الأشخاص ذوو الإعاقة في لبنان بأنّهم مظلومون، ويشكون من الإهمال والتمييز. هكذا هي الحال في الأيام الاعتيادية، فكيف بالحريّ خلال الحروب؟ حينها، يُضطرون إلى العيش في ظروف قاسية، فتتفاقم معاناتهم، ولا سيّما في حال النزوح

يشتدّ قهر النزوح في لبنان يوماً بعد يوم، ولا سيّما بالنسبة إلى الفئات الأكثر هشاشة بين من هجّرتهم آلة الحرب الإسرائيلية وما زالت تهجّرهم. ويُعَدّ الأشخاص ذوو الإعاقة من الفئات الهشّة المتضرّرة، سواء أكانوا أطفالاً أم بالغين. ومع استمرار العدوان الإسرائيلي المتصاعد على لبنان أخيراً ونزوح مئات الآلاف، تتزايد احتياجات النازحين الملحّة، وسط عدم كفاية المساعدات وضعف البنى التحتية في مراكز الإيواء غير المؤهّلة للسكن. كذلك الأمر بالنسبة إلى الأشخاص ذوي الإعاقة من بينهم.
وتظهر معاناة الأشخاص ذوي الإعاقة واضحة في الجولة الميدانية التي قامت بها "العربي الجديد"، وشملت مراكز إيواء وكذلك أرصفة وشوارع ومباني مهجورة في العاصمة اللبنانية بيروت توزّع فيها نازحون. ومن الممكن رؤية كيفيّة تقييد حركة هؤلاء وتحديد المساحة المتاحة لهم، مهما كانت طبيعة إعاقاتهم.
وكان الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً قد أطلق، عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، برنامج الطوارئ لعام 2024 تحت عنوان "لنكون كلّنا بأمان". ويشمل حملة تبرّعات لتلبية الاحتياجات الهائلة للنازحين من ذوي الإعاقة وأسرهم. وقد تواصلت فرق الطوارئ التابعة للاتحاد مع جمعيات ومنظمات إغاثية لتلبية احتياجات الأفراد ذوي الإعاقة، وبادرت إلى التوعية بكيفية إجلاء هؤلاء وإيوائهم، بالإضافة إلى وضع معايير دنيا ينبغي توفّرها في أماكن الإيواء بما لا يمسّ كرامتهم. كذلك سعت فرق الطوارئ إلى توفير ما أمكن من مساعدات عينية ومالية، إذ إنّها تعمل "في ظروف قاسية جداً وبما توفّر من إمكانات لتأمين الاحتياجات الأساسية"، وفقاً لما نُشر.
الحاجّة صباح خليل تبلغ من العمر 96 عاماً، وهي من الأشخاص ذوي الإعاقة الحركية. نزحت من بلدتها برعشيت في جنوب لبنان، وراحت تختبر ويلات العدوان الإسرائيلي الأخير، علماً أنّ تجاعيد وجهها تترجم هموم عقود من الزمن. تبكي الحاجّة المقعدة وهي تتحسّر على منزلها وبستانها المليء بأشجار الزيتون والرمّان، وتخبر "العربي الجديد" بحسرة: "كان أبنائي يحملونني لأجلس في ظلال الشجر، وكنت أجمع حبّات الزيتون وأفصل الخضراء عن السوداء. لكنّني اليوم طريحة الفراش، غير قادرة على الحراك، في منزل مهجور في بيروت، أعيش القهر والبؤس". تضيف: "تركت الزيتون على أمّه (على الشجر)، فهو كان يحتاج أسبوعاً واحداً لينضج، لكنّ الحرب داهمتنا".
لم تترك الحاجّة صباح منزلها إلا قبل أيام قليلة، بعد أن قُصف منزل مجاور لمحلّ إقامتها. وتقول: "كنت مع ابني، بعد أن نزح جميع أفراد عائلتي. وعند اشتداد القصف، صرت إحبي حَبِي (أزحف) في الغرفة، قبل أن يحملني ابني ويهرع بي إلى السيارة. لكنّنا نسينا الكرسيّ المتحرّك. حبّذا لو كنت أمشي، لكنت عدت أدراجي إلى الضيعة، فأنا بدأت أعاني من التيبّس في مفاصلي".
وتأمل ابنتها أن "تهدأ الأحوال وتتوقّف الحرب وأن تنفرج همومنا، فوضع والدتي الصحي لا يحتمل النزوح ومرارته"، وتشير إلى أنّ الحاجّة صباح "اضطرّت في الليلة الأولى إلى النوم على الأرض، قبل أن نؤمّن لها فراشاً تخلّى عنه أحد النازحين". وتتابع: "نعيش سبعة أفراد في غرفة ضيّقة من دون نوافذ، الأمر الذي يجعل والدتي المسنّة تشعر بالاختناق، فيحملها أخي إلى الخارج لتنشّق الهواء. أمّا الطعام والأدوية فحدّث ولا حرج، علماً أنّ ثمّة من يحنّ علينا بوجبة طعام في اليوم أو بعض الأدوية. لكنّ الوضع يتأزّم أكثر".

في غرفة محاذية لتلك التي ترقد فيها الحاجّة صباح، تئنّ الحاجّة ندى، وهي امرأة سبعينية من بلدة كونين (جنوب). وتقول لـ"العربي الجديد"، وهي ممدّدة على فراش رقيق: "يؤلمني جسدي كلّه. أريد العودة إلى الضيعة، فقد تركت منزلي في اللحظة الأخيرة بعدما أصرّ ابني على المغادرة". وتلفت إلى أنّه "قبل العدوان الإسرائيلي، كنت أجلس على كرسيّ متحرّك أمام عتبة المنزل مع نساء الحيّ في صبحيات لا تُنسى". وتعبّر ابنتها ليلى عن مخاوف من تدهور صحة والدتها، التي تشكو كذلك من داء السكري ومن مشكلات في القلب والكليتَين ومن ارتفاع في ضغط الدم وترقّق العظام.
وتقول ليلى: "لم نأتِ من الشارع، بل تركنا منازلنا وممتلكاتنا مرغَمين، بحثاً عن سقف يؤوينا. لكنّنا صرنا نفضّل الموت تحت القصف على العيش بالذلّ. فنحن نزحنا برفقة والدتي المقعدة إلى منطقة حيّ السلم في ضاحية بيروت الجنوبية، قبل أن تجبرنا الغارات الإسرائيلية على الهروب مجدّداً نحو الشارع. وقد قضت والدتي ليلة في سيارة، وها هي اليوم في غرفة مهجورة. لم نجد مكاناً في مراكز الإيواء، ونخاف من أن تُصاب بالعجز بسبب النوم المتواصل"، مشيرة إلى أنّها "في حاجة إلى علاج فيزيائي".

فتاة نازحة من ذوي الإعاقة - بيروت - لبنان - 9 أكتوبر 2024 (حسين بيضون)
ثمة احتياجات كثيرة للأشخاص ذوي الإعاقة في نزوحهم، بيروت، لبنان، 9 أكتوبر 2024 (حسين بيضون)

تفتقر الملاجئ المستحدثة إلى الكثير

وفي مدرسة راهبات المحبة - كليمنصو (بيروت)، تتولّى فاطمة ظاهر رعاية شقيق زوجها حسن، من ذوي الإعاقة. وتلفت بحديثها لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "حسن يعاني صعوبات في النطق وتأخراً في النموّ الذهني. كذلك أُصيب بجلطة قبل يومَين من نزوحنا من منطقة حارة حريك (ضاحية بيروت الجنوبية)، وتورّمت ساقه ولم يعد يستطيع المشي". تضيف: "ها هو يلازم الفراش على الأرض، في حين يحتاج إلى علاج وإلى سرير يسهل عليه النهوض منه"، مشيرة إلى أنّ "زوجي أو ابني يحملانه إلى دورة المياه، عندما يعودان من عملَيهما. والصعوبة تكمن في غيابهما، فأستعين بنازحين لمساعدتي".
من جهته، نزح حسن، في السبعينيات من عمره، وهذه ليست المرّة الأولى التي يعاني فيها من التهجير. فهو اضطرّ إلى ترك بلدته بليدا (جنوب) وراح يتنقّل من منطقة إلى أخرى في ضاحية بيروت الجنوبية، بين منازل شقيقه وشقيقتَيه، قبل أن يحمله صهره ويهرع به إلى وسط بيروت. هناك قضى ليلته في السيارة وعلى الرصيف، قبل أن ينتهى به المطاف في مدرسة راهبات المحبة. تبدو عليه علامات التعب والإرهاق، ويقول باكياً: "لا أستطيع الوقوف والمشي. أعاني من وجع في القدمَين وقلبي يؤلمني".
بدورها تحوّلت مدرسة الآباء الكبوشيين في منطقة الحمراء (بيروت) إلى مركز إيواء. وفي خيمة منصوبة في ملعب المدرسة، تحمل لميس الحسيني ابنتها حوراء التي تعاني من مرض الصرع ومن شلل دماغي، وتضعها بصعوبة على بساط صغير. وتقول لـ"العربي الجديد" إنّ "هذه الخيمة ملجأنا الوحيد، بعد أن نزحنا من منزلنا في منطقة صحراء الشويفات (المحاذية لضاحية بيروت الجنوبية)"، مشيرة إلى أنّ "ابنتي البالغة من العمر 14 عاماً تعاني من وضع صحي دقيق. لكنّنا اضطررنا إلى حملها والهروب بها مع جارنا في سيارته، إذ لا نملك سيارة. وضعتها في حضني طوال الطريق، قبل أن نستقلّ الحافلة نحو وسط بيروت. قضينا ليلتنا في الشارع، وقد وضعت حوراء فوق كرتونة لتغفو عليها". وتتابع لميس أنّها راحت تفكّر بـ"كيفية تأمين حفاضات لابنتي، وبمكان تبديلها".

نازحة على كرسي متحرك في شوارع بيروت - لبنان - أكتوبر 2024 (حسين بيضون)
نزوح على كرسي متحرّك في أحد شوارع بيروت، لبنان، أكتوبر 2024 (حسين بيضون)

وتشكر الوالدة الأربعينية ربّها إذ لم تنسَ حمل حقيبة الأدوية الخاصة بابنتها معها، في خلال النزوح. وتلفت إلى أنّ "من غير الممكن التوقّف عن تزويدها بالدواء ولو للحظة، إذ تُصاب بنوبة صرع". وتردف لميس أنّها بدورها تعاني من أمراض نفسية ومن مشكلات في القلب، فيما "زوجي من الأشخاص الذين أُصيبوا بإعاقة في أيام الحرب اللبنانية، بعدما أُصيب في ساقه"، مؤكدة: "لم نهنأ لحظة في حياتنا، بل تشتدّ علينا الظروف من حين إلى آخر".

احتياجات النازحين من ذوي الإعاقة كثيرة

في سياق متصل، تفيد مديرة مشروع في الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً ندى العزير "العربي الجديد" بأنّ "خطة الطوارئ التي أطلقها الاتحاد توزّعت على محافظات بيروت والشمال وجبل لبنان والبقاع، وقد أجرينا تقييماً أولياً للنازحين من الأشخاص ذوي الإعاقة في مراكز الإيواء. وتواصلنا مع الكثيرين ممن نزحوا من الجنوب ومن ضاحية بيروت الجنوبية، لمعرفة أماكن وجودهم واحتياجاتهم". أضافت: "وننسّق كذلك مع خلية الأزمة في البقاع (شرق) وعاليه وعرمون في جبل لبنان (وسط) وطرابلس وعكار (شمال)، وقد رصدنا احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة". وتوضح أنّ "ثمّة أشخاصاً كثيرين من ذوي الإعاقة نزحوا إلى بيوت أقاربهم، لكنّهم لم يحصلوا بعد على أيّ مساعدة أو معونة طبية"، مبيّنةً أنّ "الاحتياجات كثيرة، من بينها المعونات الطبية التي تسهّل حركة هؤلاء، وفرش المياه وفرش الهواء والأسرّة الطبية، كونهم لا يستطيعون الجلوس أرضاً".

وتتحدّث العزير عن "جهود كبيرة يبذلها فريق الطوارئ من خلال التواصل مع الأشخاص ذوي الإعاقة الذين نزحوا إلى بيوت لمعرفة احتياجاتهم. وقد رُصدت وحُدّدت الاحتياجات الأساسية، وجرى التنسيق والتشبيك مع منسّقي المناطق الموكلين من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية في لبنان. وقد أُحيل عدد هائل من الأشخاص ذوي الإعاقة إلى مركزَي إيواء مجهّزَين، لكنّ قدرتهما على الاستيعاب محدودة ولم يعودا قادرَين على استقبال أحد. وهذه من أبرز التحديات التي نواجهها".
وتشير العزير إلى أنّ "النازحين في المدارس يتلقّون وجبات ساخنة فقط، في حين لا يحصلون على معونات طبية، إلا في حال رصد أحدهم حاجة خاصة لدى شخص ذي إعاقة تعرّف إليه"، شارحةً أنّ "المعونات لا تقتصر على الكراسي المتحركة والعكازات الطبية وأجهزة المشي، بل ثمّة أشخاص يعانون من تقرّحات في الجلد ومشكلات صحية إضافية، وآخرون في حاجة إلى حزم النظافة الشخصية لمواءمة أدنى المعايير الصحية". وتحذّر العزير من أنّ "نازحين كثيرين ما زالوا في الشوارع، من بينهم أشخاص ذوو إعاقة، وهؤلاء لا تصلهم أيّ خدمات أو معونات. كذلك فإنّ المؤسسات والمنظمات بأكثرها تركّز على الأشخاص ذوي الإعاقة في مراكز الإيواء فقط"، وتكمل أنّ "الدولة اللبنانية استحدثت رابطاً لتسجيل النازحين في البيوت، عند أقاربهم ومعارفهم. لكنّ لا إمكانية للأشخاص ذوي الإعاقة جميعاً لزيارة الرابط وتسجيل أسمائهم، وهذا بطبيعة الحال تحدّ إضافي".

المساهمون