سؤال يطرح نفسه عندما نتحدث عن فوائد الطيور الجارحة أثناء عبورها نحو أماكن تعشيشها أو إشتائها. يقول البعض إنّها لا تأكل أثناء الهجرة ويقول آخرون إنّها تأكل، فتنظف حقولنا وغاباتنا من الآفات وتحمي محاصيلنا من القوارض، خصوصاً الفئران. هذه المسألة أتحدث عنها بعد سؤال أحد حراس المحميات لي، في مدينة عنجر، قرب الحدود اللبنانية - السورية، عن السبب الذي يمنع الناس في حِمى عنجر من اصطياد الجوارح ما عدا حوام العسل، الذي ينهالون عليه بطلقات أسلحة الصيد أثناء عبوره فوق أراضيهم. جوابي كان أنّهم يظنون أنّ حوام العسل يأكل أثناء مروره العسل من قفائر النحل، لكنّه في الواقع يأكل يرقات النحل وربما يأكل معها العسل الذي يلامسها، لذلك يحسبون أنّه يسرق منهم العسل.
عندما عدت إلى بيتي، تصفحت كتبي التي تملأه، عن الطيور، لكنّني لم أجد في أيّ منها أنّ حوام العسل يأكل أثناء هجرته، إن في الشرق الأوسط أو في أوروبا، أو حتى في العالم ككلّ. فكيف عرف أهل عنجر وبعض المدن والقرى الأخرى، قبل زمن طويل، أنّ هذا الطائر يهدد نحلهم ومنتجاته. الذي أعرفه أنّ الطيور الجارحة تهاجر راكبة الصواعد الهوائية الدافئة التي تحملها لمسافات طويلة من دون رفة جناح، وفي هذا ادخار للطاقة الموجودة في أجسامها، وعليه فإنّها غير قادرة على عبور البحار وإن مع ضربات جناح سوى لمسافات قليلة بسبب عدم وجود الصواعد الهوائية فوق البحار. هذا ما تؤكده الدراسات العلمية وتضيف إليه أنّ الصقر (10 أنواع)، والمرزة (4 أنواع)، والحدأة (3 أنواع) وحوام العسل، والشوحة المصرية، وعقبان السمك (ومنها العقاب النساري والعقاب أبيض الذيل) هي جميعها قادرة على الطيران فوق البحر لمسافات طويلة نسبياً. هنا الأمر يستحضر سؤالاً وهو أنّ من المعروف أنّ هذه الطيور التي تستطيع الطيران فوق البحر قد يأكل بعضها السمك من البحر، لكنّ البقية تأكل الطعام قبل خوض البحر أو بعد اجتيازه وقبل وصولها إلى وجهتها النهائية، فلماذا يستثنى حوام العسل منها في قدرته على تناول الطعام أثناء الهجرة؟
في الواقع، لا يستطيع أحد أن يقول إنّ حوام العسل لا يأكل أثناء الهجرة، خصوصاً أنّ الصور المنشورة لهذا الطائر أثناء الهجرة تبين أنّ حويصلة بعض أفراده مليئة بالطعام. لكنّ الأكيد أنّ أهل عنجر وغيرهم من اللبنانيين قد شاهدوا هذا الطائر يتغذى على قفير عسل هنا وآخر هناك، لأنّ الطيران الذي يستدعي ضربات الجناح فوق البحر يستهلك الطاقة بشكل أكبر ويحتاج الطائر بعدها إلى أن يعوض الدهون التي صرفها. فإذا ما علمنا أنّ الطائر يزن نحو 750 غراماً، ويقطع مسافة 6000 كلم لكيّ يصل إلى الجهة المقصودة، فإنّه إذا ما حلّق بواسطة الصواعد الهوائية سيحتاج إلى 20 نهاراً من الطيران، وعلى الأقل إلى 15 في المائة من وزنه دهوناً، أي 112 غراماً دهوناً. لكنّه إذا عبر البحر ضارباً جناحيه (البحر المتوسط في هذه الحال) فإنّه سيستهلك الـ121 غراماً في خمسة أيام فقط. ولكي يكمل الطريق إلى وجهة سفره عليه أن يتزود بالطعام عند حلول أيّ فرصة يصادفها وليس طبعاً عند نهاية مخزون الطاقة لديه. لذلك، فإنّ هذا الطائر يتغذى أثناء هجرته مثله مثل الصقر والمرزة والحدأة والشوحة المصرية وعقبان السمك، لكنّه لا يأكل العسل كما يعتقد البعض بل هو يستهدف يرقات النحل، علماً أنّه يفضل عليها يرقات الزراقط، التي يأكلها في فسحات الغابات وفي محيطها.
مجموعة الطيور الجارحة التي تأكل في هجرتها تضم 21 نوعاً من مجمل الطيور الجارحة الحالية التي يبلغ عددها في لبنان 37 نوعاً. ومثلما عرف الأجداد في لبنان قبل غيرهم أنّ حوام العسل يأكل في طريق الهجرة، فإنّنا قد نساهم مع المجتمع الدولي لمعرفة ما إذا كانت بقية الأنواع تأكل في الطريق نحو مقصدها أم لا.
(اختصاصي في علم الطيور البرية)