وفيات بين مرضى الكلى في غزة بسبب توقف العلاج

19 يناير 2024
تقليص جلسات غسيل الكلى يشكل خطراً على الحياة (علي جاد الله/ الأناضول)
+ الخط -

مع تواصل قتل الغزيين بالقصف والقنص، يمارس الاحتلال الإسرائيلي وسائل إبادة إضافية، من بينها حرمان المرضى والجرحى من العلاج، عبر منع دخول الأدوية، وتهديد المستشفيات، ومنع العلاج في الخارج.

في الثاني عشر من يناير/ كانون الثاني، فقد الفلسطيني عبد الرحمن أبو ضلفة حياته عن عمر 40 سنة، نتيجة مضاعفات ناتجة عن عدم حصوله على الرعاية الطبية اللازمة لمرض الفشل الكلوي، إذ توقفت المستشفيات والمراكز الصحية في قطاع غزة عن تقديم خدمات الغسيل الكلوي الدورية للمئات من المرضى، بسبب العدوان الإسرائيلي على القطاع، فضلاً عن نقص الإمكانيات الطبية والأدوية.
كان أبو ضلفة ضمن آلاف من أصحاب الأمراض المزمنة والخطيرة الذين يعانون من نقص الرعاية الطبية في أنحاء قطاع غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي، والذين واجهوا أزمات كبيرة في تلقي العلاج مع توقف الكثير من المستشفيات عن العمل، والضغط الهائل على مستشفيات وسط وجنوب قطاع غزة، بعد نزوح مئات الآلاف جنوباً من مناطق مدينة غزة وشمالي القطاع التي كانت أكثر المناطق ازدحماً بالسكان.
يقول شقيقه محمد أبو ضلفة إن عبد الرحمن لم يكن الفقيد الوحيد في العائلة، إذ توفى والده المسن خليل أبو ضلفة في 18 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بعد فشلهم في الحصول على العلاج اللازم له أثناء النزوح، موضحاً أن شقيقه كان من بين العشرات الذين قضوا في انتظار الحصول على علاج، وعدد منهم قاموا بتسجيل أسمائهم في وزارة الصحة للسفر إلى الخارج للعلاج، لكن الانتظار طال، وتوفوا قبل أن يحصلوا على موافقة.
يضيف أبو ضلفة: "كان شقيقي يعاني بشدة أثناء العدوان، إذ تم تشخيص مرضه قبل 3 سنوات، وكان يعاني من ضيق في التنفس، بسبب عدم الخضوع لجلسات غسيل الكلى، وكان يشعر بالهزال الشديد يوماً بعد يوم، لأنه يتلقى فقط نحو ثُلث الأدوية اللازمة، وبالتالي تتدهور صحته بسرعة، إلى جانب أن والدي كان يواجه المرض نفسه، وقد توفي أمامه، ثم تفاقمت المعاناة حين فقد منزله الذي دمّره قصف الاحتلال في مدينة غزة".

70 في المائة من مرضى الفشل الكلوي في غزة معرّضون لمخاطر تهدد حياتهم

أطلق محمد أبو ضلفة حملة جمع تبرعات لإنقاذ شقيقه الذي كان يكافح للبقاء على قيد الحياة، من أجل مستقبل طفليه الصغيرين، أو جمع المال اللازم للسفر عبر معبر رفح لتلقي العلاج اللازم في مصر، لكنه فارق الحياة قبل تحقق ذلك. يقول: "حرمتنا الحرب من أبي وأخي اللذين فقدا حياتهما بسبب عدم توفر العلاج اللازم لحالتهما الصحية التي تدهورت على مدار ثلاثة أشهر، وكانا يعانيان فيها الألم والتعب، بسبب تراكم السموم والسوائل داخل الجسم، فضلاً عن ظروف النزوح القاسية.
يضيف: "عبد الرحمن أب لطفلين هما خليل ومريم، وقد حرمتنا الحرب حتى من تلقي التعازي مع صعوبة تنقل الأفراد، وحتى التعزية عبر الهواتف لم تكن ممكنة بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت. ولا يغادر عقلي قول زوجة أخي التي باتت تحمل مسؤولية تنشئة أطفالها بعد تدمير منزلهم: نحن لا نعيش حياتنا، وإنما فقط نعيش. لقد تكيّفنا مع الحياة الصعبة في غزة، لكننا لا نستطيع القيام بذلك بعد الآن بسبب هذه الحرب التي دمرت دواخلنا أكثر مما دمرتنا من الخارج".
ويوجد قرابة 1500 مريض بالفشل الكلوي في قطاع غزة، كما تشير أرقام وزارة الصحة، كما سجلت أعداد جديدة من المرضى خلال العدوان الإسرائيلي، لكنها لم تضم إلى قاعدة البيانات، حسب النظام الصحي، للحصول على المتابعة العلاجية.

مئات من مرضى الفشل الكلوي بلا علاج في غزة (مصطفى حسونة/الأناضول)
مئات من مرضى الفشل الكلوي بلا علاج في غزة (مصطفى حسونة/ الأناضول)

وتظل أوضاع المرضى في المنطقة المحاصرة من شمالي القطاع أصعب، ومن بينهم عدد من مرضى الكلى الذين رفضوا النزوح، بسبب عدم القدرة على ذلك، كون رحلة النزوح شديدة الصعوبة، وكان هؤلاء يتلقون العلاج في المستشفى الإندونيسي قبل أن يتوقف عن العمل، ثم في مستشفى كمال عدوان التي توقفت أيضاً عن العمل، وحالياً لا يمكنهم الوصول إلى المنطقة الجنوبية للعلاج.
توفي محمد صباح (50 سنة) داخل منزله في مخيم جباليا (شمال) بسبب خروج المستشفيات عن الخدمة، وقد كان يعاني منذ أكثر من عامين من مرض الفشل الكلوي، وفي أيامه الأخيرة أصيب بهزال في الجسد. يقول شقيقه أيمن صباح: "استشهد عدد من أفراد الأسرة خلال العدوان، لكننا لم نكن نستطيع النزوح، إذ كان منزلنا يضم اثنين من ذوي الإعاقة الحركية، وشقيقي محمد كان يجد صعوبة في الحركة أيضاً بسبب مرضه، وفي البداية جرى تقليص عدد ساعات الغسيل الكلوي، ثم توقفت المستشفيات تماماً عن العمل، وتوفي شقيقي في 22 ديسمبر".
يضيف صباح لـ"العربي الجديد": "توفي ثلاثة مرضى في البناية التي كنا نعيش فيها بمخيم جباليا، بسبب توقف العمل في المستشفيات، وعدم توفر العلاج لأصحاب الأمراض المزمنة، وكنا جميعاً نعاني من ضغوط نفسية قاسية كوننا لا نملك توفير العلاج لهم، وقد استسلم أخي لمصيره في الأيام الأخيرة، وكان يقول لي: لا تتعب نفسك بالبحث، فقريباً سأرتاح عند ربي".
في جنوبي القطاع، يساور القلق آلاف من المرضى الذين يوجدون داخل مدارس الإيواء والخيام المنتشرة في الطرق والساحات، بعد أن شاهدوا عشرات الوفيات بسبب الأمراض. من بين هؤلاء عبد الله أبو عطية (55 سنة) والذي يخضع لجلسات الغسيل الكلوي لمدة أربع ساعات فقط في الأسبوع، بينما يعاني من قلة الطعام، ولا يجد في كثير من الأحيان ما يأكله.

يواصل الاحتلال استهداف مستشفيات غزة (محمود الهمص/فرانس برس)
يواصل الاحتلال استهداف مستشفيات غزة (محمود الهمص/فرانس برس)

يتمنى أبو عطية أن ينتهي العدوان الإسرائيلي ليعيش أيامه الأخيرة مع أبنائه الأربعة وحفيدته الوحيدة، وهو يعاني حالياً من تداعيات كثيرة، مثل نقص الوزن والدوار المتواصل. يقول لـ"العربي الجديد": "في بداية العدوان، كنت أتلقى العلاج داخل مجمع الشفاء الطبي، لكن الاحتلال هدد المجمع، فقررت النزوح مع عائلتي، وقد اقتحموا مجمع الشفاء لاحقاً، حالياً أعاني من عدم القدرة على الوقوف، وأشعر بالهزال الشديد. لا أريد الموت تحت العدوان، وأتمنى أن يقدر لي مواصلة العيش مع أبنائي وأحفادي".
وقبل شهر من بدء العدوان الإسرائيلي، في سبتمبر/ أيلول 2023، أطلقت وزارة الصحة في غزة نداء عاجلاً لمساعدتها في تأمين احتياجات مرضى غسيل الكلى، إذ كانت الوزارة تقدم تلك الخدمة الطبية في 6 مراكز موزعة على محافظات قطاع غزة الخمس، بواقع 13 ألف جلسة غسيل شهرياً، وفي ذلك الوقت كانت مخازنها شبه فارغة من فلاتر غسيل الكلى وأنابيب نقل الدم وبقية المستلزمات، والمتوفر على وشك النفاد.
وجرى توفير القليل من المستلزمات للوزارة في بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول، فتحسنت الأوضاع قليلاً، رغم أن الكميات المطلوبة أكبر مما توفر، لكن المعاناة اشتدت مع بدء العدوان الإسرائيلي، وخروج عدد من المستشفيات من الخدمة، بعد أن تعرضت لقصف مباشر، وجرى اقتحام عدد منها، لتتوقف خدمات رعاية مرضى الفشل الكلوي، والذين كان العديد منهم قد نزحوا إلى المستشفيات لضمان العلاج، أو لعدم توفر مكان يأويهم.
ولا تملك وزارة الصحة إحصاء دقيقاً بأعداد المتوفين خلال العدوان المتواصل، بسبب الأمراض المزمنة، مثل السرطان والفشل الكلوي والتهاب الكبد الوبائي وغيرها، لكنها تشير في بياناتها منذ بداية العدوان إلى مئات من حالات الوفيات بسبب نقص العلاج وعدم الاستجابة لنداءات الجرحى والمصابين والمرضى، وأن الأرقام تتزايد مع استمرار العدوان.

ويؤكد المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، أشرف القدرة، أن 70 في المائة من مرضى الفشل الكلوي يتعرضون لمخاطر صحية تهدد حياتهم، نتيجة استمرار القصف والنزوح، وصعوبة الوصول إلى خدمات غسيل الكلى، خاصة في شمالي القطاع ومدينة غزة، مشيراً إلى أن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال يتحكم في حجم ونوعية ومسار المساعدات الطبية، بهدف إبقاء المنظومة الصحية في القطاع في حالة انهيار.
ويوضح القدرة لـ"العربي الجديد": "أرسلنا مراراً تفاصيل الأصناف الدوائية والأدوات والمستلزمات التي نحتاج إليها، ومع بد وصول المساعدات، قمنا بتصنيف وفرز المساعدات الطبية التي دخلت إلى القطاع، وكانت نسبة ما طلبناه منها مؤسفة، إذ يمكن فقط الاستفادة من نحو 30 في المائة من المساعدات الواصلة، وهذا يشعرنا بضغط كبير، في ظل وصول نسب الإشغال بالمستشفيات العاملة إلى 350 في المائة".
ويضيف: "أبلغنا الجهات والمنظمات الدولية بأن كميات كبيرة من المساعدات لا علاقة لها باحتياجاتنا، وأن آلية الخروج للعلاج لا تزال صعبة، وفيها تعقيدات مقصودة، ما يساهم في قتل المئات ممن ينتظرون لأسابيع طويلة الموافقة على خروجهم للعلاج، وهذا يؤكد أن الاحتلال يستخدم هذه الآلية سلاحاً لقتل الجرحى والمرضى".

المساهمون