في أزمنة الزيف يتوارى الأبطال الحقيقيون.. تلك حقيقة يثبتها تعاقب الأيام واختلاف الأزمان، وليس من شاهد عليها مثل حياة الفريق سعد الدين الشاذلي، مهندس حرب أكتوبر، الذي لقّبه الكثير من الغربيين والعرب بـ"رومل العرب، وثعلب 73"، نسبة إلى القائد العسكري الألماني رومل ثعلب الصحراء.
ولد سعد محمد الحسيني الشاذلي، الذي اشتهر بلقب "الفريق الشاذلي"، في الأول من أبريل/ نيسان 1922 في قرية شبرتنا بمحافظة الغربية، التي انتقل منها إلى القاهرة مع أسرته ليكمل تعليمه بمدارسها إلى أن التحق بالكلية الحربية التي تخرّج منها العام 1940.
حمل هموم الوطن والأمة، وشارك في أحداثها الرئيسية التي شهدتها حياته الحافلة، وكان شاهداً على مراراتها ومشاركاً في صناعة انتصاراتها.. فشارك في حرب فلسطين 1948، وانضم إلى الضباط الأحرار مشاركاً في ثورة يوليو، واختار بعدها أن يكمل دوره في القوات المسلحة، وكانت له العديد من المهام والإنجازات فأسس سلاح المظلات في الجيش المصري، وشارك في رد العدوان الثلاثي على مصر 1956، ثم كان أول قائد مصري يكلَّف بقيادة وحدة في مهمة تابعة لقوات حفظ السلام في الكونغو، وكان قائد إحدى الوحدات الرئيسية التي شاركت في دعم مصر لثورة اليمن.
وفي نكسة 1967 أكد الشاذلي على مكانته وتميُّز شخصيته حين قاد وحدة من القوات المصرية الخاصة المعروفة بمجموعة "الشاذلي" في مهمة لحراسة وسط سيناء، وسط أسوأ هزيمة شهدها الجيش المصري في العصر الحديث، وبعد فقدان الاتصال بين الشاذلي وبين قيادة الجيش في سيناء، عبر الشاذلي بقواته الحدود الدولية وتمركز داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بحوالى خمسة كيلومترات وبقي هناك مدة يومين، إلى أن أصدرت له القيادة العامة المصرية وقتها الأوامر بالانسحاب فوراً، فبدأ انسحابه ليلاً في ظروف غاية في الصعوبة، في أرض يسيطر العدو عليها تماماً ومن دون أي دعم جوي أو مؤن، واستطاع بحِرفيةٍ عسكرية أن يقطع أراضي سيناء كاملة من الشرق إلى الشاطئ الغربي لقناة السويس (حوالي 200 كم)، ونجح في العودة بقواته ومعداته سالماً، وتفادى النيران الإسرائيلية، وتكبّد خسائر بنسبة 10% إلى 20%، فكان آخر قائد مصري ينسحب بقواته من سيناء.
بعد هذه الحادثة، اكتسب الشاذلي سمعة كبيرة فى صفوف الجيش المصري، فتم تعيينه قائداً للقوات الخاصة والصاعقة والمظلات، وقد كانت المرة الأولى والأخيرة في التاريخ المصري التي يتم فيها ضم قوات المظلات وقوات الصاعقة إلى قوة موحدة هي القوات الخاصة.
في 16 مايو/ أيار 1971، عيّنه الرئيس الراحل أنور السادات رئيساً لهيئة الأركان في القوات المسلحة المصرية، فكان العقل المدبّر للهجوم المصري الناجح على خط بارليف في حرب أكتوبر 1973، اختلف مع قيادة الجيش في إدارة أزمة ثغرة الدفرسوار، ما عجّل بتأزّم الأمور بينه وبين السادات الذي أصدر قراراً في 12 ديسمبر/ كانون الأول 1973 بإنهاء خدمته في القوات المسلحة، وتم تعيينه سفيراً لمصر في لندن ثم في البرتغال حتى 1978 حين تم توقيع معاهدة كامب ديفيد التي عارضها بشدة وعلانية، وترك عمله الدبلوماسي وسافر إلى الجزائر كلاجئ سياسي.
في عام 1983، قرر الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك إحالة الأمر إلى القضاء العسكري الذي اتهم الشاذلي بإفشاء أسرار عسكرية في كتابه المنشور عن حرب أكتوبر، وصدر بحقه حكم غيابي بالسجن 3 سنوات.
عاد الشاذلي إلى مصر في 14 مارس/ آذار 1992، وتم القبض عليه فور وصوله مطار القاهرة ومصادرة جميع الأوسمة والنياشين وأحيل إلى السجن الحربي لقضاء مدة العقوبة، حتى شمله قرار عام بالعفو في ذكرى نصر أكتوبر 1993، عاش بعدها في قريته يتابع هموم الوطن ويسجل آراءه في ما يمر به.
وفي 10 فبراير/ شباط 2011، وحين احتشد شعب مصر في الميادين يطالب بتحرير مصر من زمرة الفساد التي أحكمت الخناق على الوطن ثلاثين عاماً، لفظ الفريق سعد الشاذلي أنفاسه الأخيرة عن عمر بلغ 89 عاماً قضاها حاملاً هموم وطنه مجاهداً في سبيل حريته ورفعته بأمانة وإخلاص، بعد صراع مع المرض، ليكون خبر وفاته دافعاً خاصاً للكثيرين إلى استكمال الثورة على أنظمة حكم حرمت مصر من خيرة أبنائها وأقصت أبطالها، فكانت جنازته يوم 11 فبراير ـ وقبل ساعات من إعلان تنحي مبارك عن الحكم ـ رسالة وفاء من الشعب المصري لأبطاله الحقيقيين، وصلّى ميدان التحرير صلاة الغائب على البطل الراحل، فيما أقيمت له جنازة عسكرية وشعبية مهيبة تقدمها الشيخ حافظ سلامة قائد المقاومة الشعبية في السويس والعديد من أبناء وشباب مصر.
وفي 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2012، منح الرئيس محمد مرسي الفريق سعد الدين الشاذلي قلادة النيل وتم تسليمها لأسرته تكريماً لدوره الكبير في حرب أكتوبر.