تتنقّل في أسواق العاصمة دمشق، فترى تلك الوجوه المجهَدة من الصيام. تفكّر أن تسأل أصحابها عن تحضيراتهم لعيد الفطر الذي يدقّ الأبواب، فتجيبك ابتساماتهم الساخرة. لا أحد يتحدّث عن إحساسه بصراحة، حتى أولئك الذين لم يفقدوا أبناءهم ولا أموالهم. فكيف إذاً بسكان الضواحي والأحياء التي أثقلتها الحرب؟
في وسط دمشق، قامت سوق جديدة حيث منطقة "البرامكة" محور الحركة الدائمة، ومركز انطلاق معظم سكان الريف الغربي إلى بيوتهم أو وظائفهم. وهذه السوق فرضها الضغط على أسواق العاصمة الكبرى، وهروب تجار أحياء المدينة الجنوبيّة والشماليّة المشتعلة، بالإضافة إلى بعض أصحاب البسطات الصغيرة من الفارين من نار الموت في بقيّة المحافظات، خصوصاً الشماليّة منها.
ويقبل على السوق الجديدة هذه الأيام الموظفون وأصحاب الدخل المحدود، المستعدّين لدفع نصف راتبهم كُرْمَى عيون أطفالهم. لكن محمود وهو موظّف في إحدى البلديات يربط ذلك بحصوله على "منحة" -نصف راتب إضافي-، وإلا فإن العيد سيكون كارثياً كما حصل في السنوات الأخيرة، خصوصاً أن شهر رمضان لم ينتهِ بعد.
ولا تخلو هذه السوق من نسوة يبتعنَ أدوات الزينة والعطور. صباح، امرأة في الثلاثين تقف أمام واجهة أحد المحلات لاختيار أحمر شفاه، تقول لـ"العربي الجديد" إن "الحرب لن تنته في الغد، ووقوفي هنا لا يعني عدم اهتمامي بما يجري في بلدي. فلي أخ معتقل، لكننا نحاول القيام بأي شيء لخداع نفسنا والقول إن الحياة مستمرّة".
أما في سوق "الشيخ سعد" حيث حركة الشراء أفضل حالاً، فإن معظم الزبائن هم من أحياء العاصمة الهادئة. وهم ممّن تبقّى مِن الطبقة الوسطى التي لم تهرب إلى مصر أو تركيا أو طلبت اللجوء إلى الدول الاسكندنافيّة وأوروبا. وهؤلاء كما تقول يسرى "مؤمنون بأن الحياة مستمرّة. لكن لا نعرف متى سيحين دورنا في التشرّد".
حركة لا بركة
في الأسواق الأخرى، مثل الصالحيّة والجسر الأبيض، الحركة ليست على ما يرام والتجار يشتكون من ارتفاع أسعار خيوط التصنيع وتوقّف التصدير. وهذا ما ينعكس ارتفاعاً في أسعار الألبسة. أما المواطنون، فيمرّون سريعاً. يطّلعون على قوائم الأسعار أو يسألون عن القطع التي لم تسعّر ويعبّرون عن دهشة. فقد ارتفعت أسعار البناطيل خمسة أضعاف عن ثمنها الأساسي على أقل تقدير. فالبنطال الذي كان بحدود ألف ليرة سوريّة صار ثمنه يتراوح ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف ليرة، في حين يتراوح ثمن القميص ما بين 1500 وأكثر من ألفَي ليرة. وهذه الأسعار لا تستطيع تحمّلها حتى الأسر متوسطة الحال.
إلى ذلك، لم تعد سوق "الحميديّة" المشهورة -أكبر الأسواق الدمشقيّة وأكثرها تنوعاً- مثار اهتمام الفقير الذي انتقل إلى السوق المجاورة "باب الجابية"، حيث الجودة أقلّ والسعر مقبول.
في هذه السوق، يتجوّل أبو محمد مع أبنائه الثلاثة وهم يحملون أكياساً تحوي ثياب العيد الجديدة. يتنهّد أبو محمد بغصّة ويقول لـ"العربي الجديد": "أيعقل أن هؤلاء الفصاعين (مصطلح سوري يستخدم للدلالة على الصغار) كلفوني سبعة آلاف ليرة، وذلك فقط ثمن بناطيل وقمصان؟ لم أشترِ لهم بعد الأحذية وتوابع اللباس. هل يعقل أن يباع البنطال في سوق مثل باب الجابية بـ 1500 ليرة والكنزة بـ 800 ليرة؟ هذه التي كانت أرخص أسواق دمشق؟!".
من جهتها، تدور أم خالد مع ابنتَيها الصغيرتَين في السوق من دون أن تجد ما يمكن شراؤه بما تملك من نقود. فتقول بتردّد لكن بابتسامة مكابرة، "اكتفيت ببعض الأكسسوارات والحليّ والخواتم للفتاتَين. ووعدتهما بأن نشتري في العيد المقبل".
كيفما تلفّتتَ في أسواق العاصمة دمشق، ترى أطفالاً يتفرجون على الألعاب ويحلمون بها. تلك القطع الصينيّة التي لم تكن مرغوبة هنا، صارت اليوم حلماً لهؤلاء. وخلف بسطات تلك الألعاب، آخرون يبيعونها كي يأكلوا ويحلموا.