دوائر لبنان

27 يناير 2015
كلّهم زملاء دوائر لبنانية واحدة (محمود زيات/فرانس برس)
+ الخط -
اليوم، يبدأ عيسى وظيفة جديدة. لكنّ دوائر لبنان قررت كدأبها، أن تدور به، فلا ينفذ منها إلا بجهد يلائم الكثير من الأمور في البلد الصغير.

يتنقل الشاب الذي بدأ ثلاثينياته للتو، في الكثير من الوظائف الصغيرة والمهن الحرة. وكلّها لم يؤمّن له الحصول على أيّ استقرار اجتماعي مرتبط دائماً بمدخول قليل وضمانات لا تسمن أو تغني.

الوظيفة الجديدة في قسم المشتريات الخاص بشركة كبرى، تأتي في مكانها الصحيح بالنسبة له. فهي على تماس كبير مع اختصاصه الإداري، الذي لم ينل يوماً فرصة فيه في بلاد الوساطات.
لكنّ مسؤولي التوظيف في الشركة طلبوا منه، من ضمن مستندات كثيرة، وثيقة السجل العدلي. وهي الوثيقة التي تثبت أو تنفي وجود أحكام قضائية بحقه. وطبعاً فالشركات الكبرى تشترط أن يكون السجل نظيفاً من أيّ حكم.

لطالما كانت هذه المهمة تزعج عيسى. فقد طلب منه السجل مراراً من أجل جواز السفر، ورخصة القيادة، وبعض الوظائف. وكان يضطر كلّ مرة للإنتظار كمشتبه به طوال نصف ساعة وأكثر في قيادة الشرطة القضائية، قبل الحصول على سجله. لا أسوة بغيره ممّن ينهون إجراءاتهم بخمس دقائق فقط.

فسجلّ الشاب يحمل حكماً منقضياً، بسبعة أيام حبساً، لتخلفه عن الخدمة العسكرية الإلزامية.
هو أدى خدمته، وقضى حكمه بالسجن خلالها، وحصل على خلاصة حكم تثبت ذلك. حتى أنّ الخدمة الإلزامية نفسها ألغيت في لبنان منذ عام 2007. وما زال الحكم محفوراً في سجله العدلي.

لم يضطر من قبل لتبييض السجل لأنّها المرة الأولى التي يطلب إليه أن يكون نظيفاً. مع العلم أنّه يسمح بهذا الإجراء بخصوص الجنح (حالة عيسى) بعد مرور 3 سنوات على إنجاز حكمها.

وبذلك، بدأت رحلة الوثيقة الضائعة بين الدوائر. فمن مبنى السجل العدلي والحصول على الوثيقة "الملطخة"، إلى المحكمة العسكرية لتقديمها مع خلاصة الحكم والحصول على استدعاء، ومجدداً إلى السجلّ العدلي للحصول على الوثيقة نفسها ممهورة هذه المرة بختم "لا حكم عليه".

تبدو بسيطة الكلمات، لكنّ كلّ خطوة منها تشعر الداخل في دوائر الدولة اللبنانية أنّه متهم حتى بالأنفاس التي يتنفسها، بل محكوم أيضاً. فممنوع الكلام وممنوع إدخال الهاتف المحمول وممنوع الخروج من المكان المخصص وممنوع شراء فنجان قهوة أو زجاجة مياه.. حتى أنّ الدخول إلى دورة المياه ممنوع أيضاً.

أما الموظفون، فجديدهم كعتيقهم، ومدنيّهم كعسكريّهم، كلّهم يتحدث إليك بعنجهية، ويعاملك بفوقية تتوحد فيها الرتب والمناصب. فيصبح الحاجب كالإداري كالضابط كالقاضي، كلهم زملاء دوائر لبنانية واحدة، نجح عيسى مجدداً في العبور منها.
دلالات
المساهمون