هذا ما يحدث الآن: كلّ الطرق سريعة، لأنّ كلّ المطالب مستعجلة، ولأن الجميع يلاحق الجميع، محفزين، مطالبين، ملحّين. نداء تلو آخر: لا تتأخر، هيّا، لا وقت كي تتأخر.
لا ينبغي لأحد أن يتأخر عن أي شيء، ولا لشيء أن ينتظر. لا وقت للهفوة التي قد تحمي الخطأ من العقاب، ولا مكان للعودة التي تنقذ الذكرى من المحو.
ذلك أن الوقت ضيق ولا يسع إهمالاً، الوقت ضيق حدّ أنه يبدو مخنوقاً وملحّاً ومنذراً. ولأنه ينذر ويضيق، على هذا النحو، يتحول الوقت إلى خطر محدق، إلى حفرة ينبغي القفز فوقها!
كل الطرق سريعة، كل الحفر جاهزة، وعليك ألا تخطئ وألا ترجئ وألا تنظر إلى الوراء. إنها لا تترك للعين حيزاً كي ترى وكي تصافح وكي تصادق ما تصادفه.
يبدو أننا نخسر غنى وتنوع ما نراه لصالح سرعة تجاوزه وإنجازه. يبدو أننا نلهث فيما نحن نغطي اللهاث بابتسامة مهزومة هي عنوان شقاء وعلامة حيرة وقناع ملل وضجر رتيبين.
لا يتعلق الأمر بالطريق وحسب ولا بالعمل وحسب ولا بالمنافسة مع عبء الزمن. بل يتجاوز تلك المسافة ليصل إلى الكلام اليومي وإلى تبادل المحادثة التي تكاد تتحول هي نفسها إلى طريق سريع.
هكذا إذاً يتحول اللقاء أيضاً إلى طريق سريع آخر. العمل، وسرعة إنجاز العمل، يفسحان الوقت للقضاء على أي فرصة للتأمل. نحن أسرى ما ننجزه بسرعة، غير أننا نكاد ننسى ما نقوم به!
الخوف أن يُضحّى بالإتقان مقابل السرعة. الخوف أن يتحول العمل السريع إلى فكر ناظم لما بعده، وإلى طريقة تفكير لما قبله. حينها لا نملك قدرة استعادة النظر ببطء إلى ما نقوم به. لا نملك فرصة المراجعة، ذلك أن ما سنقوم به غداً سيكون قد محا ما قمنا به أمس. سيحل التشابه محل الاختلاف، وتتحول الرتابة إلى ناظم وإلى محور. ما يسبق العمل هنا يبدو أقوى من العمل نفسه. إنه يشدّه إلى الخلف مذ تحول إلى آلية وإلى أسلوب.
الخوف أن يُضمَر بداخلنا ذاك الضوء الخافت، ضوء التساؤل وضوء الحذر وضوء التردد. لربما أثناء ترددنا نعثر على إجابة غير متوقعة، على تعبير جديد. لكن لا، لا، لا وقت لذلك. حينها إذ نبقى مكبلين بحيوية مزيفة نقدم للوقت، وهو سيف من ذهب كما يقال، اليد المطيعة التي تقضي على خصال إنسانية مرهفة ودقيقة.
لربما يكون الأطفال بمنأى عن هذه الخسارة، غير أن عالم الكبار، العملي والقاسي، يهيئهم كي يصيروا جزءاً منه. لامبالاة الطفل أحياناً فرصة ثمينة، ذلك أنه يبدي حرصاً من نوع آخر لا نفطن إليه عادة: النظرة العارية، الخفيفة، التلاقي الأول مع الأشياء.
اقرأ أيضاً: مناسبات.. أم أعباء