إثر الاعتداءات الإرهابيّة الأخيرة التي هزّت فرنسا في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، راحت تُفتح الملفات التي تطاول الفرنسيّين المسلمين، ولا سيّما هؤلاء المتحدّرين من أصول مهاجرة. الالتحاق بالشرطة واحد منها.
كشفت صورة الشرطي الفرنسي من أصول مغاربية، أحمد المرابط، الذي ظهر جثة هامدة على الأرض وقد صرعته رصاصات الأخوين كواشي خلال الاعتداء على صحيفة "شارلي إيبدو" في السابع من يناير/ كانون الثاني 2015، وكذلك صورة جنازته في بوبيني في ضواحي باريس وسط غياب شبه تام للمسؤولين الفرنسيين، عن الحالة "غير العادية" التي يعيشها رجال الشرطة الفرنسيون المتحدّرون من أصول مهاجرة.
ويُشار إلى أنه لا بدّ لهؤلاء أن يملكوا جرأة استثنائية حتى يلتحقوا بهذا الجهاز، بسبب النظرة السلبية التي ينظر بها أهاليهم للجهاز. كذلك، بسبب العلاقة السيئة، لحدّ اليوم، بين الشرطة والفرنسيين المسلمين، والتي لم تتغيّر كثيراً منذ أن ألقى رجال الشرطة مئات من الجزائريين في نهر السين في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961.
يتحدّث القيادي من أصول جزائرية في حزب الجبهة الوطنية، فريد سماحي، لـ"العربي الجديد"، عن صداقات تربطه بعدد كبير من عناصر الشرطة الفرنسيين المرموقين من أصول عربية. ولا يُخفي سماحي أن أكثرهم يتبنّى أفكاراً قريبة من أفكار الجبهة الوطنية. لكن أعدادهم في الواقع قليلة و"الفلتر" دقيق لا يسمح لهم بترقٍّ سريع.
حميد (تحفّظ عن ذكر شهرته)، شرطي فرنسي متقاعد، من أصول جزائرية. يقول: "لا يخلو التفكير ومن ثم الإقدام على الانضمام إلى أقسام الشرطة الفرنسية من قبل الفرنسيين المسلمين المتحدرين من أصول مهاجرة، من صراع نفسي رهيب". ويشرح أنّه "حتى في عائلتي لم أجد إجماعاً على ذلك، في حين أنّ كثيرين من أهل الحيّ والأصدقاء لم يُصدّقوا ما سمعوه. وراحوا يقاطعونني، الواحد تلو الآخر".
اقرأ أيضاً: قلق في أحياء باريس العربيّة
صحيح أن الظروف النفسية تلعب دوراً مهماً، إلا أنها ليست وحدها بل تُضاف إليها أخرى كثيرة. من السهل مثلاً أن تجد عناصر من أصول إسبانية وإيطالية في الشرطة، لكن الأمر مختلف في ما يخصّ العناصر من أصول عربية وإسلامية. ويستحيل في فرنسا، حيث تُحظر الإحصاءات المبنية على أساس العرق والإثنية والدين، معرفة النسبة الدقيقة لهؤلاء.
يعود الفضل إلى وزير الداخلية الفرنسي الأسبق جان بيار شوفنمان في الانفتاح على الشباب المتحدرين من أصول مهاجرة وتشجيعهم على الانخراط في الشرطة، التي تُعدّ نظرياً قطاعاً عمومياً يخلو من أي طابع تمييزي.
وقد راهن شوفنمان على تجنيد عدد متزايد من هؤلاء، من أجل مكافحة التمييز المؤسساتي، على أمل أن يُغيّر هذا الحضور في الشرطة، من الداخل، الثقافة البوليسية التي تُتّهم أحياناً بأنها تعبّر عن عنصرية.
وكان شوفنمان قد عبّر في العلن عن رغبته في أن يكون "رجال الشرطة على صورة سكان فرنسا. وهو ما يعني أن تستقبل أقسام الشرطة في أحضانها شباباً يتحدرون من أصول مهاجرة". وعلى الرغم من أن وزراء الداخلية الذين توالوا من بعده استمروا في سياسة الانفتاح تلك، إلا أن حضور هؤلاء المتحدرين من أصول مهاجرة يلاحظ بشكل أكبر في شركات الأمن الخاصة التي تعدّ من الشركاء في الاستراتيجيات العامة القاضية بتأمين أراضي الضواحي".
تفيد دراسة نشرها المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي تحت عنوان "المسلمون ووسائل الاندماج: الشرطة، مقاربة مقارنة"، بأن العراقيل كبيرة أمام التحاق هؤلاء الشباب بأقسام الشرطة. وتوضح أنّ من بين مائة مرشح لمسابقة الدخول إلى الشرطة، قُبل 6.4 في المائة من المغاربيين في مدينة ليل و11 في المائة في مارسيليا.
وترى الدراسة أن المرشحين من أصول مغاربية وأفريقية كانوا أكبر سناً من رفاقهم. وهو ما يعني أن هذه المهنة كانت الملاذ الأخير لهم، وقد جاءت بعد سلسلة من الإخفاقات في مِهَن أخرى. وتلفت إلى طبيعة الأسئلة التي تُطرح على هؤلاء من قبيل: "ماذا تفعل إذا اعْتُقل أخوك؟"، أو "هل تعود إلى بيتك بزيّ الشرطة؟". لكن هذه الدراسة لم تستطع معرفة سبب إخفاق هؤلاء المرشحين المغاربيين المُضاعف في الاختبارات النفسية التقنية.
يشدّد الباحث الفرنسي إليامين ستّول، في حديث إلى "العربي الجديد"، على "عدم وجوب الاحتجاج على هذا العدد القليل لرجال الشرطة المتحدرين من أصول مهاجرة، بل يجب السؤال عن الضمانات التي يمكن أن تُمنَح لهؤلاء. من جهة، حتى لا يُعدّوا في الخارج حَرْكيّين (عملاء فرنسا من الجزائريين)، ومن جهة ثانية حتى لا تقتصر مهامهم على الأعمال الدنيا، وهي الأعمال التي تعود إمّا إلى البروليتاريا الجديدة أو يكونوا في وضعية تشبه الإقامة الجبرية في أحياء بالغة الحساسية".
إلى ذلك، يوضح ستّول أنّ "الاندماج الناجح يشترط انفتاح المؤسسة الأمنية على تظلّمات من يتعرض للتمييز، علماً أن التصرفات والسلوكيات التمييزية لا تترك كثيراً من الآثار، بالتالي يصعب التقاط الوقائع. والشرطة الفرنسية تمتلك سلطة لا تُقهَر في ما يتعلق بنزع المصداقية عن الاتهامات التي تطالُها، ومن بينها الحديث عن تمرّد أو إهانة رجال سلطة". يضيف: "من هنا، ينبغي بذل جهود ضخمة من أجل مساءلة المصداقية الدائمة لتقارير الشرطة".
ولا تنقص الأمثلة حول صعوبة العمل في هذه المؤسسة، بالنسبة إلى هؤلاء المتحدرين من أصول مهاجرة، وبعضهم من النساء. في عام 2010 أصدرت الشرطية من أصل تونسي سهام سويد كتاباً تحت عنوان "قانون الصمت في الشرطة، شطط في استعمال السلطة وعنصرية". وكشف الكتاب الذي عرف رواجاً كبيراً، عن عالم قاس لا يخلو من عنصرية وحالات اغتصاب.
وتصف سويد التي كانت كلها أمل وهي تنضم إلى المؤسسة، الأجواء التي عاشتها وهي تشتغل في مطار أورلي الذي يستقبل كل الجنسيات والأعراق. وتحكي عن الضغوط الكبيرة التي تعرضت لها، في حين تؤكد أنها لم تفعل إلا تأدية واجب "المواطنة ونقل الحقيقة".
يُذكر أنها تلقت تأييداً كبيراً من رابطة حقوق الإنسان التي امتدحت "جرأتها وعنادها وتصميمها على احترام المبادئ". وهي كانت قد أوقفت عن العمل وعُيّنت في وظيفة أخرى، وظلت أربع سنوات وهي تنتظر حكم القضاء بتهمة "إفشاء السرّ المهني"، حتى نالت في النهاية حكم البراءة. لكنها خرجت مُحطَّمَة، لأنه من الصعب تحدّي التراتبية.
اقرأ أيضاً: تسامح وحريّة.. فرنسا تسعى إلى "حوار مفيد" في المدارس
تجدر الإشارة إلى أنّ بُونْوا هامون، الناطق باسم الاشتراكيين الذين كانوا حينها في المعارضة في ذلك الحين، طالب وزير الداخلية اليميني كلود غيان بـ"وقف هذا التعنت بحقها، والسماح لها بمزاولة عملها. وطالبه بالانخراط في مكافحة كل أشكال التمييز داخل المجتمع الفرنسي، بما فيه داخل الشرطة".
أملت سويد في أن تساهم قضيتها في تحسين ظروف عمل الشرطة وتسهيل اندماج الفرنسيين من أصول مسلمة فيها. لكن الظروف الخارجية أتت لتؤثّر سلباً وبشكل كبير على الداخل الفرنسي. بعد "الربيع العربي" واشتداد الحرب في العراق وسورية، بدأت السلطات الأمنية الفرنسية تتحدث في عام 2014 عن "تطرّف داخل الشرطة الفرنسية".
في السياق ذاته، يشكو المرشحون للالتحاق بالشرطة الفرنسية من وجوب التحلّي بكثير من الصبر والقدرة على التحمّل. وهو ما يقوله عبد الله (تحفّظ عن ذكر شهرته)، وهو شرطي من أصول مغربية، لـ"العربي الجديد". يشير إلى أنه "يتوجّب على المرء أحياناً، إذا كان مسلماً، ألا يفكر في الترقي. أما السبب فهو الامتحان الشفهي الذي يأتي مؤلماً ويتضمّن كثيراً من الفخاخ".
ويوضح: "سُئلتُ مثلاً عن أمور لا تهمّ فرنسا، من قبيل الظروف السياسية في بلدي الأم، وعن جنسية زوجتي وعن الطقوس الدينية وعن الحجاب". يُذكر أن هذه الأسئلة وأسلوبها مرفوضة من قبل مجلس الدولة الفرنسي، لكن من المستحيل تقديم البراهين. من هنا، يأتي تشديد السلطة العليا لمكافحة التمييز وتحقيق المساواة التي أصبحت اليوم تُدعى "المدافع عن الحقوق"، على الشفافية، وذلك من خلال تسجيل جلسات الامتحانات الشفهية.
بعض العرب والمسلمين يعبّرون لـ"العربي الجديد"، عن إحساسهم بـ"السكينة" لدى رؤية أفراد من أصول عربية في دوريات الشرطة. يقول رضى، وهو تونسي: "حينما أرى شرطياً بملامح مغاربية، أحس بقلق أقل، خصوصاً في هذه الفترة الصعبة من تاريخ فرنسا الحديث".
من جهته، يقول موحند، وهو عجوز جزائري متقاعد، إنه "لو كان مع هذه الشرطة أفراد مسلمون، لنقص العنف وقلّت الخسائر".
اقرأ أيضاً: جمعيات إسلاميّة.. هذه تداعيات العمليات الإرهابية في فرنسا