الكرسي أخضر ونَفَسها ضيّق. قديمٌ البيت الذي تسكنه ث. لوحدها منذ أشهر قليلة، ومع ذلك ترتّب شعرها الرمادي كل يوم. مرّت عليها فيه أيام حلوة وأيام مرّة. مرّة كوجه ليال عندما تقرّر أن تفكّر كالفلاسفة، من دون أن يطلب أحد منها ذلك. انتبهت إلى أنها لم تحدّث ليال بعد، أرجأت ذلك لما بعد القهوة والدخان. لن تعدّ ث. فنجانًا من القهوة لليال. ربما مع العمر أصبحت أكثر حرصاً على عدم التبذير. ربما تعرف ث. أن ليال لا تحب القهوة مرّة، ولا تحب، من جهة أخرى، أن تكون ممّن يفضّلون القهوة حلوة.
تقول ليال بصوتٍ عالٍ أقرب إلى الصراخ إن "مفتاح السعادة ذاكرة عقيمة". ترمي ث. بنظرها نحو ليال، فتصمت هذه الأخيرة. تنفث الدخان في وجه ليال عن قصد. تنتقم بذلك منها. تعرف ث. أنها ليست مضطرة إلى الردّ على ليال، فالكرسيّ أخضر داكن ونَفَسها لا يزال ضيقاً، ويصبح أضيق بعد. تنسى دوماً أنها هي التي اخترعت ليال، وهي التي أسمتها ليال وأنها هي، أي ث.، مسؤولة عنها وعمّا تقول وعن الجحيم الذي تدعو لها أن تحترق فيه.
تستفزّها رفقة ليال أحياناً، فترسلها بعيداً، إلى الجحيم، إلى الدكان، إلى مقهى الرجال... لا فرق. قلّما تفكّر ث. بالرجال. لم تعد تلحظ أن بيتها القديم أصبح منذ سنوات عالم نساء بلا رجال. ليالٍ بلا رجال، وصباحات بلا رجال. لكن الليالي هي بلا شك الأصعب. بإصبعها، تثبّت السيجارة على طرف المنفضة، وتتجه بثقة نحو غرفة النوم. وبثقة تعود لتجلس على الكرسيّ الأخضر. تتأمل حذاءها الأسود، وتهزّ برجلها كمن يتعمّد لفت الأنظار. تدندن على مسمع ليال "جيت مخصوص بالكعب العالي" من أغنية سونه يا سنسن لشادية.
ظلّت ث. تشرب القهوة وتدخّن وتبتسم في وجه ليال، ثم قالت لها: "سأشرب الركوة حتى الفنجان الأخير. بعدها، سأطبع إصبعي في كعبه. وإذا بان لي طريق يا ليال، أخرج وأذهب إلى مقهى الرجال. وأكون بذلك المرأة الأولى في الضيعة التي تدخل مقهى الرجال. أما إذا لم يظهر لي شيء أبدا في الفنجان، أبقى هنا وإيّاك يا ليال".
ضحكت ث. حتى سمعت ليال تضحك معها. شربت الفنجان الأخير. قبّلت إبهامها الأيمن قبل أن تدخله قعر الفنجان ثم لعقته بعدما انتهت.
الفنجان أسود فيه بقعة بيضاء ناصعة، تشبه الصحراء، لا طريق فيها ولا زاروب حتى. سمعت ليال تضحك بسخرية. احمرّت غضبا. وضعت الفنجان على الصينية، وتركت ليال وحدها. لحظات بعد أن أغلقت باب البيت خلفها لتتوجه إلى مقهى الرجال، عادت وفتحته بالمفتاح. أطلّت برأسها منه، مدّت لسانها لليال بحركة فكاهيّة، ثم ضحكت مرّة أخيرة وفكّرت أنها الآن تدخل التاريخ من بابه العريض.