تتغيّر الحياة سريعاً، ومعها بعض العادات والتقاليد التي ترافق الإنسان من جيل إلى آخر. ولم يعد الجيل الجديد متمسكاً بموروثات الآباء والأجداد، وخصوصاً في مجالس العزاء التي كان المجتمع العراقي يظهر فيها مدى تماسكه، وإن كان قد بدأ يتفكك بعد الغزو الأميركي عام 2003.
وكان للأوضاع الأمنية التي تمر بها البلاد تأثير كبير على عادات الناس، الذين يعيشون في خوف مستمر من المستقبل. في هذا السياق، يقول الأكاديمي والباحث الاجتماعي، مقداد السامرائي، لـ "العربي الجديد": "حين كنّا صغاراً، كانت المنطقة أو الحي هي بيتنا الكبير. وفي كل مجلس عزاء، لا يخلو بيتنا الصغير من النساء والرجال الذين كانوا يرتدون الأسود، وتبدو ملامحهم متجهمة". هكذا كان يواسي الناس أهل الفقيد. لا مكان للفرح أو الابتسامات في مناسبات كهذه.
يضيف أنه "كان يمنع تشغيل التلفزيون في المنزل مدة شهر، ولم يكن أحد يتجرأ على أكل اللبان أو المكسرات التي تعد من مظاهر الترف. حتى الأطفال كانوا يدارون مشاعر أهل الفقيد فلا يضحكون أمامهم أو يذكرون اسم الميت". يتابع إن "الجارة المقربة كانت تبيت عند جارتها أو قريبتها أو صديقتها مدة سبعة أيام. وعادة ما تقام وليمة بعد مرور سبعة أيام على موت الفقيد، ويعرف هذا اليوم محلياً بالسبعة. والرجال لا يتحدثون إلا عن مآثر المتوفى وخصوصاً في جلساتهم الليلية. أما خلال النهار، فيحرصون على حضور مجالس العزاء التي لا يتغيب عنها إلا الذي يعاني من ظرف قاهر، أو غير المكترثين".
ويبيّن السامرائي، أن الأمر اختلف خلال السنوات الأخيرة. إذ يكتفي بعضهم، اليوم، بتقديم التعازي عبر الهاتف، لافتاً إلى أن هذا يخلو من المشاعر الحقيقية التي تساهم في التخفيف من وقع المصيبة لدى أهل الميت، علماً أنه لابد من البقاء إلى جانبهم لمواساتهم.
ويعزو الأمر إلى اعتياد الناس على الموت، بالإضافة إلى المشاكل الأمنية وقطع الطرقات أو وجود عوائق نتيجة عسكرة المدن. أيضاً، يلفت إلى "قلة التواصل مع الجيل القديم الذي لطالما عدّ هذه الطقوس أساسية. ومع الوقت، قد نصل إلى قطيعة مجتمعية ويخسر الناس الهدف من العزاء، وهو تخفيف آلام الفقيد".
اقرأ أيضاً: الكاميرات لا تمنع الجرائم في العراق
من جهته، يقول أبو عبدالرحمن الفلوجي (45 عاماً) لـ "العربي الجديد" إنه "في الآونة الأخيرة، تغيرت الأمور كثيراً. وصارت التعازي تقام في المسجد بعد حجزه لثلاثة أيام وساعات محدودة نتيجة غلاء المعيشة. تقدم القهوة والمياه والشاي، وتقرأ سورة الفاتحة. وفي الوقت الحالي، وبسبب تهجير العائلات من مختلف محافظات العراق والنزوح، اختلفت طريقة تقديم واجب العزاء بسبب صعوبة الوصول إلى بعض المناطق، بالإضافة إلى الطائفية والخوف من الحضور كون الشخص قد يكون مطلوباً فيخشى اعتقاله أو قتله. لذلك، صار بعضهم يكتفي بالتعزية عبر الهاتف، أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي".
إلى ذلك، يقول المهندس، نسيم النعيمي، (34 عاماً)، الذي يعمل في إحدى المؤسسات الأمنية، إنه "على الرغم من اعتزازي بتقاليد الآباء والأجداد، وإن كان هناك مبالغة فيها أحياناً، إلا أنها تبقى جزءاً مهماً من موروثنا الاجتماعي وتقاليدنا التي نوليها الاهتمام والعناية". يضيف أن "الجيل الجديد أو ما يسمى بجيل التكنولوجيا والإنترنت لا يهتم كثيراً بالعادات والتقاليد إلا في حالات خاصة".
ويوضح النعيمي لـ "العربي الجديد" أن سبب غياب التعازي المباشرة يرتبط بظروف خارجة عن إرادة الإنسان، منها الوضع الأمني في العديد من المناطق. يضيف أن أهل الفقيد باتوا يلتمسون الأعذار للمعزين. أما امتناع بعضهم عن حضور مجالس العزاء بسبب وجود كلفة مادية عالية، وهي مقدار ما يدفع لأهل المصاب كواجب، ويتراوح ما بين عشرة آلاف وخمسمائة ألف دينار (9 دولارات أميركية و451 دولاراً) بحسب صلة المعزي بأهل الميت. وعلى الرغم من أنه غالباً ما يكون العذر رمزياً، إلا أن الأمر بات صعباً لدى بعضهم. إذ تكثر مجالس العزاء في بلد مثل العراق في ظل كثرة الوفيات بسبب الانفجارات وغيرها من الأحداث الدامية. وقد يكون هذا سبباً كافياً لامتناع بعضهم عن التعزية المباشرة والاكتفاء بالتعزية عبر الهاتف. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الناس، وخصوصاً ذوي الدخل المحدود، يخسرون جزءاً كبيراً من رواتبهم شهرياً بسبب ما يدفعونه خلال مجالس العزاء.
ويلخص النعيمي الفرق بين جيل الشباب والجيل القديم في التعاطي مع التعزية ومجالس العزاء "إن الجيل القديم لا يتساهل أبداً في التقاليد المتبعة في مجالس العزاء" لافتاً إلى أنه ليس هناك رضى عن كثير من أفكار الأجيال الحالية. أما جيل الشباب فقد واكب التطور والإنترنت والسرعة، وبات لا يعترف بكثير من العادات والتقاليد، ويرحب بفكرة التعزية عبر الهاتف وربما يراها أكثر واقعية.
من جهة أخرى، هناك فرق بين نظرة سكان المدن والمناطق الريفية. وعادة ما يكون أهالي المدن أكثر تساهلاً في ما يتعلق بالعادات والتقاليد، وأكثر تقبلاً للتعزية عبر الهاتف. أما سكان القرية والأطراف، فيولون أهمية كبيرة للعادات والتقاليد، ولا يتقبلون التعزية عبر الهاتف على الرغم من تكاليف مجالس العزاء التي قد تمتد إلى سبعة أيام، وتنصب فيها الخيم وتعد الولائم وغير ذلك.
اقرأ أيضاً: بغداد الأولى عراقيّاً في عدد الباعة الجوالين
وتجدر الإشارة إلى أنه في المناطق الحضرية، تقام مجالس العزاء في قاعة أو جامع أو حسينية في أوقات محددة (ثلاث ساعات صباحاً وثلاث ساعات مساء). من جهة أخرى، فإن ذوي الفقيد في مثل هذه المجتمعات، عادة ما يكونون أكثر تساهلاً من غيرهم لناحية التعزية عبر الهاتف، بسبب اختلاف نمط الحياة. ولا بد من الإشارة إلى أنه ليس هناك فرق جوهري في نظرة المجتمع العراقي بمختلف طوائفه لموضوع التعازي. وكما يقول المثل الشعبي "كلنا خال وابن الأخت".
أما الباحث في مجال القانون والتنمية البشرية رائد العزاوي (40 عاماً)، فيرى أن الأعراف والتقاليد تشهد تحوّﻻت من وقت إلى آخر، لافتاً، في الوقت نفسه، إلى أن تلك المتعلقة بمجالس العزاء لم تشهد تغيرات كبيرة، وخصوصاً لناحية عدم تحميل أهل الفقيد عبء تقديم الطعام طيلة أيام العزاء. وفي ظل ما يشهده العراق، وتحديداً في المدن التي يسودها الطابع العشائري، صار هناك تحوّل جديد في سلوكيات مجالس العزاء، والتي صارت تقام في قاعات مخصصة لهذا الغرض. وفي وقت سابق، صارت تعقد تلك المجالس في قاعات المناسبات وتحديداً للعائلات ميسورة الحال، بغية تجاوز موضوع تقديم وجبات الطعام.
ويوضح لـ "العربي الجديد" أن هذا السلوك صار يتوسع ليشمل كل طبقات المجتمع، وخصوصاً بعد قيام السلطات الأمنية بتوفير مفارز خاصة لحماية قاعات المناسبات في أوقات مجالس العزاء. لهذا، بات الأمن هدفاً أساسياً، لافتاً إلى أن هذا التحوّل المهم قد عالج أمرين مهمين، الأول يتعلق بأصحاب العزاء، وخصوصاً تقديم الطعام، والثاني المعزين، لناحية إعطاء مبلغ معين لأصحاب العزاء أو ما يعرف محلياً بالعذر.
ويلفت إلى أن "التعزية المباشرة لم تغب في مجالس العزاء إﻻ في حالات يكون الفرد خارج المدينة أو ثمة ظروف تعيق حضوره، مع الملاحظة أن هناك من يتحملون مشقة السفر والمخاطرة لغرض الحضور الى مجلس العزاء في محافظة أو مدينة أخرى، لأن مجتمعنا يعد التخلّف، عن حضور تلك المجالس، عيباً في شخص من تخلّف، وهذا ما نلمسه في حجم الوافدين إلى مجالس العزاء وفي أحلك الظروف".
ويأمل العزاوي أﻻ تبتلع التكنولوجيا التقاليد الخاصة بهذه المجالس، فتختصر التعزية في اتصال أو رسالة نصية، وخصوصاً أن الفراق على أهل الميت يكون صعباً في الفترة الأولى، ولا يخفف من وطأته إلا توافد المعزين، الذين لهم دور كبير في التخفيف على أهل الفقيد، ومساعدتهم على استئناف حياتهم مجدداً.
اقرأ أيضاً: إجراءات مشدّدة لمنع هدم البيوت التراثية في بغداد